و لعنا لا نخطئ إن رددنا سحر هذا النغم إلى نسق القرآن الذي يجمع بين مزايا النثر و الشعر جميعاً يقول المرحوم الأستاذ سيد قطب :" على أن النسق القرآني قد جمع بين مزايا الشعر و النثر جميعاً، فقد أعفى التعبير من قيود القافية الموحدة و التفعيلات التامة، فنال بذلك حرية التعبير الكاملة عن جميع أغراضه العامة، و أخذ في الوقت ذاته من خصائص الشعر الموسيقى الداخلية، و الفواصل المتقاربة في الوزن التي تغنى عن التفاعيل، والتقفية التي تغني عن القوافي، و ضم ذلك إلى الخصائص التي ذكرنا فجمع النثر و النظم جميعاً ".[ التصوير الفني في القرآن سيد قطب ].
أقرأ معي الآيات الأولي من سورة النجم :
بسم الله الرحمن الرحيم :" و النجم إذا هوى، ما ضل صاحبكم و ما غوى، و ما ينطق عن الهوى، أن هو إلا وحى يوحى، علمه شديد القوى، ذو مرة فاستوى، و هو بالأفق الأعلى ن ثم دنا فتدلى، فكان قاب قوسين أو أدنى، فأوحى على عبده ما أوحى، ما كذب الفؤاد و ما رأى، أفتمارونه على ما يرى " ؟
و لقد رآه نزلة أخرى، عند سدرة المنتهي، عندها جنة المأوى، إذ يغشى السدرة ما يغشى، ما زاغ البصر و ما طغى، لقد رأى من آيات ربه الكبرى، أفرأيتم اللات و العزى، و مناة الثالثة الأخرى ؟ ألكم الذكر و له الأنثى ؟ تلك إذن قسمة ضيزى" سورة النجم.
تأمل الآيات تجد فواصل متساوية في الوزن تقريباً ـ على نظام غير نظام الشعر العربي ـ متحدة في حرف التقفية تماماً، ذات إيقاع موسيقي متحد تبعاً و ذلك، و تبعاً لأمر آخر لا يظهر ظهر الوزن و القافية، لأنه ينبعث من تألف الحروف في الكلمات، وتناسق الكلمات في الجمل، و مرده إلى الحس الداخلي، و الإدراك الموسيقي، الذي يفرق بين إيقاع موسيقي و إيقاع، و لو اتحدت الفواصل و الأوزان. و ألإيقاع الموسيقي هنا متوسط الزمن تبعاً لتوسط الجملة الموسيقية في الطول متحد تبعاً لتوحد الأسلوب الموسيقي و إيقاع، و لو اتحدت الفواصل و الأوزان.
و لا يعني هذا أن كلمة " الأخرى " أو كلمة " الثالثة " أو كلمة " إذن " زائدة لمجرد القافية أو الوزن، فهي ضرورية في السياق لنكث معنوية خاصة.
و تلك ميزة فنية أخرى أن تأتي اللفظة لتؤدي معنى في السياق لنكث معنوية خاصة، و تلك ميزة فنية أخرى أن تأتي اللفظة لتؤدي معنى في السياق، وتؤدي تناسباً في الإيقاع، دون أن يطغى هذا على ذلك، أو نحو يختل إذا قدمت أو أخرت فيه، أو عدلت في النظم أي تعدل.
و إن هذا النغم القرآني ليبدو في قمة السحر و التأثير في مقام الدعاء، إذا الدعاء ـ بطبيعة ـ ضرب من النشيد الصاعد إلى الله، فلا يحلو وقعه في نفس الضارع المبتهل إلا إذا كانت ألفاظه جميلة منتقاة و جملة متناسقة متعانقة، و فواصله متساوية ذات إيقاع موسيقي متزن، و القرآن الكريم لم ينطق عن لسان النبيين و الصديقين و الصالحين إلا بأحلى الدعاء نغماً، و أروعه سحر بيان، أن النغم الصاعد من القرآن خلال الدعاء يثير بكل لفظة صورة، و ينشئ في كل لحن مرتعاً للخيال فسيحا : فتصور مثلاً ـ و نحن نرتل دعاء زكريا عليه السلام ـ شيخاً جليلاً مهيباً على كل لفظه ينطق بها مسحة من رهبة، وشعاع من نور، و نتمثل هذا الشيخ الجليل ـ على وقاره ـ متأجج.
العاصفة، متهدج الصوت، طويل النفس، ما تبرح أصداء كلماته تتجاوب في أعماق شديدة التأثير. بل أن زكريا في دعائه ليحرك القلوب المتحجرة بتعبيره الصادق عن حزنه و أساه خوفاً من انقطاع عقبه، و هو قائم يصلي في المحراب لا ينئ ينادي أسم ربه نداء خفياً، و يكرر اسم " ربه " بكرة و عشياً، و يقول في لوعة الإنسان المحروم و في إيمان الصديق الصفي :" رب إني وهن العظم مني، و اشتعل الرأس شيباً، و لم أكن بدعائك رب شقياً، وإني خفت الموالي من ورائي، و كانت امرأتي عاقراً، فهب لي من لدنك ولياً، يرثني و يرث من آل يعقوب و اجعله رب رضياً " سورة مريم.
و إن البيان لا يرقى هنا إلى وصف العذوبة التي تنتهي في فاصلة كل آية بيائها المشددة و تنوينها المحول عند الوقف ألفا لينة كأنها في الشعر ألف الإطلاق : فهذه الألف اللينة الرخية المنسابة تناسقت بها " شقياـ وليا ـ رضياً " مع عبد الله زكريا ينادي ربه نداء خفياً، ولقد استشعرنا هذا الجو الغنائي و نحن نتصور نبياً يبتهل وحده في خلوة مع الله، و كدنا نصغي إلى ألحانه الخفية تتصاعد في السماء، فكيف بنا لو تصورنا جماعة من الصديقين الصالحين و هم يشتركون : ذكرانا و إناثا، شبانا ً بأصوات رخيمة متناسقة تصعد معا و تهبط معا و هي تجأر إلى الله، و تنشد هذا النشيد الفخم الجليل :" ربنا ما خلقت هذا باطلاً، سبحانك فقنا عذاب النار، ربنا إنك من تدخل النار فقد أخذيته، و ما للظالمين من أنصار، ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان أن آمنوا بركم فأمنا، ربنا فأغفر لنا ذنوبنا، و كفر عنا سيأتينا، و توفنا مع الأبرار، ربنا و آتنا ما وعدتنا على رسلك و لا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد ".


الصفحة التالية
Icon