وأفاض في الحديث، كأنما يتدفق من ينبوع لا يغيض أبدا. وودت لو أن الرجل بقى حتى أكمل ما بدأ، بيد أن المنية عاجلته فقضى وهو مجاهد في سبيل ربه ـ طيب الله ثراه. شرح الدكتور في تفصيل طويل المعاني التي احتواها القرآن التي يستحيل بالبراهين الحاسمة أن تصدر عن بشر، وأحصى جملة الشبه التي يمكن أن تخطر ببال أي متردد مرتاب، ثم أجهز عليها. ومضى يستعرض ما يقوله المستقصي في طلب الحقيقة وبسط الإجابة في أدب وفقه، واسمع إلى هذا البيان: "فإن قال: قد تبينت الآن أن سكوت الناس عن معارضة القرآن كان عجزاً". وإنهم وجدوا في طبيعة القرآن سراً من أسرار الإعجاز يسمو به عن قدرتهم، ولكني لست أفهم أن ناحيته اللغوية يمكن أن تكون من نطاق هذا السر، لأني أقرأ القرآن فلا أجده يخرج عن معهود العرب في لغتهم العربية. فمن حروفهم ركبت كلماته، ومن كلماتهم ألفت جملة وآياته، على مناهجهم في التأليف جاء تأليفه. فأي جديد في مفردات القرآن لم تعرفه العرب من موادها وأبنيتها، وأي جديد في تركيب القرآن لم يعرفه العرب من طرائقها، ولم تأخذ به في مذاهبها حتى نقول: إنه قد جاءهم بما فوق طاقتهم اللغوية. قلنا له: أما أن القرآن الكريم لم يخرج في لغته عن سسن العرب في كلامهم إفراداً وتركيباً فذلك في جملته حق لا ريب فيه، وبذلك كان أدخل في الإعجاز. وأوضح في قطع الأعذار "ولو جعلنا قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي". فهل ذهب عنك أن مثل صنعة البيان كمثل صنعة البنيان. فالمهندسون البناءون لا يخلقون مادة بناء لم تكن في الأرض، ولا يخرجون في صنعتهم عن قواعدها العامة، ولا يعدو ما يصنعونه أن يكون جدراناً مرفوعة، وسقفاً موضوعة، وأبواباً مشرعة. ولكنهم تتفاضل صناعتهم وراء ذلك في اختيار أمتن المواد، وأبقاها على الدهر، وأكنها للناس من الحر والقر، وفي تعميق الأساس، وتطويل البنيان، وتخفيف المحمول منها على حامله، والانتفاع بالمساحة اليسيرة في
المرافق الكثيرة، وترتيب الحجرات والأبهاء بحيث يتخللها الضوء والهواء. فمنهم من يفي بذلك كله، أو جله، ومنهم من يخل بشيء منه أو أشياء. إلى فنون من الزينة والزخرف يتفاوت الذوق الهندسي فيها تفاوتا بعيداً. كذلك ترى أهل اللغة الواحدة يؤدون الغرض الواحد على طرائق شتى، يتفاوت حظها في الحسن والقبول. وما من كلمة من كلامهم، ور وضع من أوضاعهم بخارج عن مواد اللغة وقواعدها في الجملة. ولكنه حسن الاختيار في تلك المواد والأوضاع قد يعلو بالكلام حتى يسترعي سمعك، ويثلج صدرك، ويملك قلبك. وسوء الاختيار في شيء من ذلك قد ينزل به حتى تمجه أذنك، وتفتر منه نفسك، وينفر منه طبعك". وينتقل الدكتور الشيخ محمد عبد الله دراز إلى خصائص الأسلوب القرآني، فيبين الأسباب التي بلغ بها درجة الإعجاز، ولولا أن الرجل حافظ فاقه لكتاب الله، وضليع مكين في آداب العربية، وعابد مخبت تفتت أمام بصيرته النيرة الحكم البالغات التي غابت عن غيره، ما استطاع أن يصور لنا هذه الخصائص ويجعلها منا رأى العين.. ونكتفي بنماذج قليلة من كلماته، لا تغني ألبته عن مدارسة الكتاب ذاته. قال: وهاتان غايتان أخريان متباعدتان عن الناس. فلو أنك خاطبت الأذكياء بالواضح المكشوف الذي تخاطب به الأغنياء لنزلت بهم إلى مستوى لا يرضونه لأنفسهم في الخطاب. ولو أنك خاطبت العامة باللمحة والإشارة التي تخاطب بها الأذكياء، لجئتهم من ذلك بما لا تطيقه عقولهم. فلا غنى لك ـ إن أردت أن تعطي كلتا الطائفتين حظها كاملاً من بيانك ـ أن تخاطب كل واحدة منهما بغير ما تخاطب به الأخرى. كما تخاطب الأطفال بغير ما تخاطب به الرجال. فأما أن جملة واحدة تلقي إلى العلماء والجهلاء، وإلى الأذكياء والأغبياء، وإلى السوقة والملوك، فيراها كل منهم مقدرة على مقياس عقله، وعلى وفق حاجته، فتلك ما لا تجده على أتمه إلا في القرآن الكريم. فهو قرآن واحد، يراه البلغاء أوفى كلام بلطائف التعبير، ويراه العامة


الصفحة التالية
Icon