و ربما وصلت آيات منه إلى سمع أشدهم عداوة للإسلام، فألقى سلاحه مصدقاً و مبايعاً، عن يقين بأن هذه الكلمات ليست من قول البشر.
حدثوا أن " عمر بن الخطاب " خرج ذات مساء متوشحاً سيفه يريد رسول الله ﷺ و رهطاً من أصحابه، في بين عنده " الصفا " سمع أنهم مجتمعون فيه، فلقيه في الطريق من سأله :
ـ أين تريد يا عمر ؟
أجاب : أريد محمداً هذا الصابئ الذي فرق أمر قريش و سفه أحلامها وعاب دينها وسب آلهتا، فأقتله.
قال له صاحبه :
ـ غرتك نفسك يا عمر ! أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض و قد قتلت محمداً ؟ أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم ؟
سأله عمر، وقد رابه ما سمع :
ـ أي أهل بيتي تعني؟
فأخبره أن صهره و ابن عمه " سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل " قد أسلم.
و كذلك أسلمت زوجته، أخت عمر " فاطمة بنت الخطاب".
فأخذ " عمر " طريقه إلي بيت صهره مستثار الغضب، يريد أن يقتله و يقتل زوجته فاطمة. فما كاد يدنو من الباب حتى سمع تلاوة خافتة لآيات من سورة طه، فدخل يلح طلب الصحيفة التي لمح أخته تخفيها عند دخوله....
و انطلق من فوره إلي البيت الذي اجتمع فيه المصطفى بأصحابه، فبايعه، وأعز الله الإسلام بعمر، وقد كان من أشد قريش عداوة للإسلام و حرباً للرسول. [سيرة بن هشام ].
و في حديث بيعة العقبة، أن الرسول ﷺ ندب صاحبه " مصعب بن عمير " ليذهب مع أصحاب العقبة إلى يثرب، ليقرئهم القرآن و يعلمهم الإسلام. فنزل هناك على " أسعد بن زراة " الأنصاري الخزرجي.
فحدث أن خرجا يوماً إلى حي بني عبد الأشهل رجاء في أن يسلم بعض القوم. فما سمع كبير الحي " سعد بن معاذ، و أسيد بن حضير" بقدم مصعب و أسعد، ضاقا بهما و أنكرا موضعهما من الحي، قال سعد بن معاذ لصاحبه أسيد بن حضير :" لا أبا لك ! انطلق على هذين الرجلين فأزجرهما و انهما عن أن يأتيا دارينا. فإنه لولا أن أسعد بن زرارة منى حيث علمت، كفيتك ذلك : هو ابن خالتي و لا أجد عليه مقدماً".
و التقط أسيد بن حضير حربته ومضى إلى صاحبي رسول الله فزجرهما متواعداً :
ـ ما جاء بكما إلينا تسفهان ضعفاءنا ؟ اعتزلانا إن كانت لكما بنفسيكما حاجة.
قال له مصعب بن عمير :
ـ أو تجلس فتسمع، فإن رضيت أمراً قبلته، و إن كرهته كُفَّ عنك ما تكره ؟
فركَّز أسيد حربته و اتكأ عليها يصغي إلى ما يتلو مصعب من القرآن. ثم أعلن إسلامه من فوره، وعاد إلى قومه فعرفوا أنه جاء بغير الوجه الذي ذهب به. و ما زال أسيد بسعد بن معاذ حتى صحبه إلى ابن خالته أسعد بن زرارة، فبادره سعد سائلاً في غضب و إنكار :
" يا أبا أمامة، لولا ما بيني و بينك من القرابة ما رمت هذا مني. أتغشانا في دارنا بما نكره ؟ ".
ولم يجب أبو أمامه، بل أشار على صاحبه " مصعب " الذي استهل سعد بن معاذ حتى يسمع منه، ثم تلا آيات من معجزة المصطفى، نفذت إلى قلب ابن معاذ فمزقت عنه حجب الغفلة و غشاوة الضلال. و أعلن إسلامه و عاد إلى قومه فسألهم : يا بني عبد الأشهل، كيف تعلمون أمري فيكم ؟
أجابوا جميعاً : سيدنا، و أفضلنا رأياً، و أيمننا فيكم ؟
فأجابوا جميعاً : سيدنا، وأفضلنا رأياً، و أيمننا نقيبة.
فعرض عليم الإسلام " فو الله ما أمسى في حي بني عبد الأشهل رجل أو امرأة إلا مسلماً و مسلمة "[سيرة بن هشام ].
هل فرض القرآن إعجازه على هؤلاء الذين استنارت بصائرهم فآمنوا بمعجزة المصطفى بمجرد سماعهم آيات منها، دون غيرهم ممن لجوا في العناد و التكذيب ؟
إن القرآن لم يفرض إعجازه البياني من أول المبعث، على هؤلاء الذين سبقوا إلى الإيمان به فحسب، بل فرضه كذلك على من ظلوا على سفههم و شركههم، عناداً و تمسكاً بدين الآباء و نضالاً عن أوضاع دينية و اقتصادية و اجتماعية لم يكونوا لم يكونوا يريدون لها أن تتغير.
و في الخبر أن من طواغيت قريش و صناديد الوثنية العتاة من كانوا يتسللون في اوئل عصر المبعث خفية عن قومهم، ليسعوا آيات هذا القرآن دون أن يملكوا إرادتهم.
روى " ابن إسحاق " في السيرة أن أبا سفيان بن حرب العبشي، و أبا جهل ابن هشام المخزومي، والأخنس بن شريق الزهري، خرجوا ذات ليهة متفرقين على غير موعد، إلى حيث يستمعون من رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو يصلى و يتلو القرآن في بيته. فأخذ كل رجل منهم مجلساً يستمع فيه، و لا أحد منهم يعلم بمكان صاحبيه. فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق فتلاوموا و قال بعضهم لبعض :
" لا تعودوا، فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئاً " ثم انصرفوا.
حتى إذا كانت الليلة التالية، عاد كل منهم إلى مجلسه لا يدري بمكان صاحبيه.
فباتوا يستمعون للمصطفى حتى طلع الفجر فتفرقوا و جمعهم الطريق فتلاوموا، وانصرفوا على ألا يعودوا.
لكنهم عادوا فتسللوا في الليلة الثالثة و باتوا يستعمون إلى القرآن[سيرة بن هشام ].
إعجاز النظم في القرآن الكريم
لإعجاز النظم عدة مظاهر تتجلى فيها :
المظهر الأول :" الخصائص المتعلقة بالأسلوب "
و إليك هذه الخصائص :