لقد بعث الله تعالى رسوله محمداً ﷺ بالرسالة الخاتمة، فكان ﷺ خاتم الأنبياء والمرسلين، ورسالته خاتمة الرسالات جميعاً، فأنزل الله تعالى عليه القرآن بلسان عربي مبين في أُمَّة أُمية لها باعها الطويل والقِدْح المُعلَّى في البيان والفصاحة وروعة الأسلوب، حتى كانت لهم الأسواق والمنابر والمواسم يعرضون فيها أنفس البضائع، وأدق وأجود وأبرع صناعتهم البيانية، إنها بضاعة الكلام من الشعر والنثر والخطابة، وكان النقد والمساجلة والمناظرة، حتى يختاروا من هذه الصناعة البيانية أروعها وأحسنها في جو من التنافس الشديد، ليتفاخروا بما قدموه، ولتتناقله العرب بعد ذلك تذوقاً للُّغة التي تهذبت كلماتها وأساليبها واختيرت ألفاظها أحسن اختيار.
فنزل القرآن على النبي محمد ﷺ، وهو معجزته الكبرى، ودليله على النبوة وأنه لا ينطق عن الهوى إنْ هو إلاَّ وحي يوحى، وقد وقف أئمة اللُّغة من العرب عاجزين أمام القرآن أنْ يحاكوه أو يماثلوه في أزهى العصور للأُمَّة العربية بياناً وفصاحة وبلاغة. فكان التحدي بألفاظ القرآن وكلماته في فصاحته وبلاغته وبيان أسلوبه، لذا قبل الدخول في لب موضوعنا وهو: "الإعجاز البياني واللُّغوي في القرآن الكريم"، يحسن بنا أنْ نشير إلى الموضوعات التي سوف نتناولها بالدراسة من خلال البحث إنْ شاء الله تعالى، وهي على الترتيب التالي:
[١] معجزات الأنبياء.
[٢] تعريف المعجزة، الإعجاز.
[٣] تعريف البيان، الفصاحة، البلاغة.
[٤] معجزة القرآن.
[٥] التحدي بالقرآن.
[٦] حالة العرب الفكرية.
[٧] وجوه الإعجاز.
[٨] كتب الإعجاز.
[٩] نماذج من القرآن الكريم دالة على إعجازه البياني.
[١٠] خاتمة تشمل على أهم النتائج التي توصل إليها البحث، كما ذيَّلتُ الدراسة بفهرس المراجع، ثم نأتي بعد الإجمال إلى التفصيل.
والله أسال أنْ يوفقني لإخراج هذا البحث على الصورة المقبولة إنه سميع مجيب.
[١] معجزات الأنبياء:
اقتضت حكمة الله تعالى أنْ يؤيِّد رسله بالمعجزات لتكون تصديقاً لهم فيما يبلغون من رسالاته، إذا ما داخل الشك قلوب أقوامهم، وأنكروا عليهم دعواهم، كما قالت ثمود لصالح عليه السلام: (مَا أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ)([١]).
وكما قال موسى عليه السلام لفرعون: (يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ حَقِيقٌ عَلَى أَن لاَّ أَقُولَ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُم بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ)([٢]).
وكما قال عيسى عليه السلام لبني إسرائيل: (... أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)([٣]).
وكما قالت قريش لمحمد ﷺ :(فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ)([٤]) وكأنهم أرادوها آيات حسية على غرار آيات صالح، وموسى، وعيسى عليهم السلام فقال الله تعالى لهم: (قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ)([٥]).
فلفت الله تعالى أنظارهم إلى أنَّ القرآن آية محمد ﷺ ومعجزته، وهو قائم مقام معجزات غيره من الأنبياء.
[٢] تعريف المعجزة:
عندنا فعلان: أحدهما: ثلاثي، والآخر رباعي.
الثلاثي: عجز، يعجز فهو عاجز، ومصدر الفعل هو: العجز.
أما الرباعي: فهو أعجز، يعجز فهو معجز ومصدر الفعل هو الإعجاز.
المعجزة إذاً: هو اسم الفاعل المؤنث من فعل ذلك الفعل([٦]).
والمعجزة في الاصطلاح: "هي الأمر الخارق للعادة، السالم من المعارضة يظهره الله تعالى على يد النبي، تصديقاً له في دعوى النبوة"([٧]).
ويشترط في المعجزة:
[١] أنْ تكون فعلاً من الأفعال المخالفة لما تعوَّد عليه الناس وألفوه.
[٢] أنْ يظهره الله تعالى على يد من يدّعي النبوة.
[٣] أنْ يكون الغرض من ظهور هذا الفعل الخارق هو تحدي المنكرين، سواء صرح النبي صاحب المعجزة بالتحدي أو كان التحدي مفهوماً من قرائن الأحوال.
[٤] أنْ تجيء المعجزة موافقة ومصدقة لدعوى النبوة، فإذا حدثت المعجزة وكذبت النبي في دعواه فلا يكون النبي صادقاً، كما لو نطق الجماد مثلاً بتكذيب صاحب المعجزة.
[٥] أنْ يعجز المنكرون عن الإتيان بمعجزة مماثلة لمعجزة النبي، أي يعجزون عن معارضته([٨]).
تعريف الإعجاز:


الصفحة التالية
Icon