الخاصة الأولى : إن هذا الأسلوب يجري عن نسق بديع خارج عن المعروف من نظام جميع كلام العرب، و يقوم في طرقته التعبيرية على أساس مباين للمألوف من طرائقهم. بيان ذلك أن جميع الفنون التعبيرية عند العرب لا تعدو أن تكون نظما أو نثرا، وللنظم أعاريض، وأوزان محددة معروفة، و للنثر طرائق من السجع، و الإرسال و غيريهما مبينة و معروفة. و القرآن ليس على أعاريض الشعر في رجزه و لا في قصيده، وليس على سنن النثر المعروف في إرساله و لا في تسجيعه، إذ هو لا يلتزم الموازين المعهودة في هذا و لا ذاك، و لكنك مع ذلك تقرأ بضع آيات منه فتشعر بتوقيع موزون ينبعث من تتابع آياته، بل يسري في صياغته، و تألف كلماته، و تجد في تركيب حروفه تنيسقاً عجيباً يؤلف اجتماعها إلى بعضها لحنا مطرباً يفرض نفسه على صوت القارئ العربي كيفما قرأ، طالما كانت قراءته صحيحة. و مهما طفت بنظرك في جوانب كتاب الله تعالى و مختلف سوره وجدته مطبوعاً على هذا النسق العجيب فمن أجل ذلك تحير العرب في أمره، إذ عرضوه على موازين الشعر فوجدوه غير خاضع لأحكامه، و قارنوه بفنون النثر فوجدوا غير لاحق بالمعهود من طرائفه فكان أن انتهى الكافرون منهم إلى أنه السحر، واستيقن المنصفون منهم بأنه تنزيل من رب العالمين. و إليك أيها القارئ الكريم بعض الأمثلة التي توضح هذه الحقيقة، و تجلبها، قال تعالى :" بسم الله الرحمن الرحيم، حم تنزيل من الرحمن الرحيم، كتاب فصلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون
، بشيراً و نذيراً فأعرضوا أكثرهم فهم لا يستمعون، و قالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه، وفي آذاننا وقر، و من بيننا و بينك حجاب فاعمل إننا عاملون، قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلى أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه و استغفروه وويل للمشركين " [سورة فصلت : ١ـ ٥].
و هذه الآيات بتأليفها العجيب، و نظمها البديع حينما سمعها عتبة بن أبي ربيعة و كان من أساطين البيان استولت على أحاسيسه، و مشاعره، وطارت بلبه، ووقف في ذهول، و حيرة، ثم عبر عن حيرته و ذهوله بقوله :" و الله لقد سمعت من محمد قولاً ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر و لا بالسحر و لا بالكهانة... و الله ليكونن لقوله الذي سمعته نبأ عظيم".
و إليك سورة من سوره القصار تتجلى فيها هذه الحقيقة أمام العيان من ينكرها فكأنما ينرك الشمس في وضح النهار.
بسم الله الرحمن الرحيم :" و الشمس وضحاها، والقمر إذا تلاها، و النهار إذا جلاها، والليل إذا يغشاها، والسماء و ما بناها، قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها، كذبت ثمود بطغواها، إذا انبعث أشقاها، فقال لهم رسول الله ناقة الله و سقياها، فكذبوه فعقروها فدمم عليهم ربهم بذنبهم فسواها و لا يخاف عقباها " [سورة الشمس ].
تأمل هذه الآيات، و كلماتها، و كيف صيغت هذه الصياغة العجيبة ؟ و كيف تألفت كلماتها و تعانقت جملها ؟ و تأمل هذا النغم الموسيقي العذب الذي ينبع من هذا التالف البديع، إنه إذا لامس أوتاد القلوب : أهتزت له العواطف ن و تحركت له المشاعر، و أسال الدموع من العيون، و خرت لعظمته جباه أساطين البيان، أشهد أنه النظم الإلهي الذي لا يقدر على مثله مخلوق.
و هذه الحقيقة توجد في سائر كتاب الله لا تتخلف في سورة من سوره و لا في آياته، و من أجل ذلك عجز أساطين البيان عن الإتيان بأقصر من مثله.
و في هذا يقول الرافعي رحمه الله :" و ذلك أمر متحقق بعد في القرآن الكريم : يقرأ الإنسان طائفة من آياته، فلا يلبث أن يعرف لها صفة من الحس ترافد ما بعدها و تمده، و فلا تزال هذه الصفة في لسانه، و لو استوعب القرآن كله، حتى لا يرى آية قد أدخلت الضيم على أختها، أو نكرت منها، أو أبرزتها عن ظل هي فيه، أو دفعنها عن ماء هي إليه : و لا يرى ذلك إلا سواء و غاية في الروح و النظم و الصفة الحسية، و لا يغتمض في هذا إلا كاذب على دخله و نية، و لا يهجن منه إلا أحمق على جهل و غرارة، و لا يمتري فيه إلا عامي أو أعجمي و كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون " [إعجاز القرآن للرافعي : ص ٢٧٥].
الخاصة الثانية : هي أن التعبير القرآني يظل جارياً على نسق واحد من السمو في جمال اللفظ، و عمق المعنى و دقة الصياغة و روعة التعبير، رغم تنقله بين موضوعات مختلفة من التشريع و القصص و المواعظ و الحجاج والوعود والوعيد و تلك حقيقة شاقة، بل لقد ظلت مستحيلة على الزمن لدى فحول علماء العربية و البيان.
و بيان ذلك ان المعنى الذي يراد عرضه، كلما أكثر عموما و أغنى أمثلة و خصائص كان التعبير عنه أيسر، و كانت الألفاظ أليه أسرع، وكلما ضاق المعنى و تحدد، و دق و تعمق كان التعبير عنه أشق، و كانت الألفاظ من حوله أقل.