وفي الإجابة عن ذلك نقول، وبالله المستعان: هذا التركيب الذي صيغت به هذه الآية الكريمة كثير الاستعمال في القرآن الكريم٠ وقد كان، وما زال محطَّ خلاف، ومثار جدل بين علماء النحو والتفسير٠٠ وحقيقته أنه مركب من عبارتين:
الأولى: هي جملة تامة مستقلة بذاتها؛ وهي قوله تعالى:﴿ إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبًا ﴾٠٠ والثانية: هي عبارة شرطية، جُعِلت شرطًا للأولى، وقيدًا لها؛ وهي قوله تعالى:﴿ ولو افتدى به ﴾٠
وهذه العبارة الشرطية إما أن تكون مجردة من الواو؛ كما في قولنا:( يعطى السائل، لو كان فقيرًا )٠ أو تكون مقرونة بالواو؛ كما في قولنا:( يعطى السائل، ولو كان غنيًا )٠
فالإعطاء الأول في العبارة الأولى مشروط، أو مقيَّد بكون السائل فقيرًا، وليس كذلك الإعطاء الثاني في العبارة الثانية٠٠ والفرق بينهما: أن الأول يجري بوجود الشرط؛ لأن كون السائل فقيرًا يناسب أن يعطَى٠ ولهذا يُسمَّى هذا النوع من الشرط: شرطًا إيجابيًّا٠ وأما الإعطاء الثاني فيجري رغم وجود الشرط؛ لأن كون السائل غنيًَّا لا يناسب أن يعطَى، بخلاف الأول٠ ولهذا يسمى هذا النوع من الشرط: شرطًا سلبيًّا٠ ولكونه سلبيًّا أدخلت عليه الواو٠ ويمكن أن نعبِّر عن معنى هذا التركيب بقولنا: يعطى السائل رَغْمَ كونه غنيًّا٠ وهذا يعني أن ( الواو ) مع ( لو ) أفادت معنى: رَغْم٠(١)
وهذا هو المراد من قول النبي صلى الله عليه وسلم:" أعطوا السائل، ولو كان على فرس"؛ لأن كون السائل على فرس مشعرٌ بغناه٠ والغنى لا يناسبه الإعطاء، ولا ينسجم معه؛ ولهذا أدخلت الواو على لو، فصار معنى التركيب: أعطوا السائل رغم كونه غنيًا٠
ومن هنا ينبغي أن تسمَّى هذه الواو: رَغْمِيَّة٠ أو: واو الرَّغْم، مع التنبيه إلى أنه لا يجوز حذفها؛ لأن حذفها يُخلُّ بمعنى الكلام، ونظمه٠ ألا ترى أنه لو قيل: أعطوا السائل، لو كان غنيًا، جُعِل الغنى شرطًا في الإعطاء٠٠ وهذا خلاف المراد٠ وبهذا ترى أن وجود هذه الواو قبل( لو) حصَّن المعنى من هذا الفهم، وربط بين العبارة الشرطية، والعبارة الأولى، التي لا تنسجم معها في الدلالة انسجامًا مباشرًا٠
وعلى هذا الأسلوب ورد قوله تعالى:﴿ إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبًا ولو افتدى به ﴾٠ أي: لن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبًا، رَغم افتدائه به٠ أو: على الرَّغم من افتدائه به٠
وأنت إذا تأملت الشرط في العبارة الشرطية- وهو الافتداء بملء الأرض ذهبًا- وجدته غير ملائم لما تقدم( لو ) من كلام؛ وهو نفي قبول الفدية٠ وبيان ذلك أن الافتداء لا يرَد؛ لأن قبول الفدية واجب شرعًا، وواجب عُرفًا، وكان يلائمه أن يقبل من الكافر٠ ولكنه لم يقبل منه بسبب موته على الكفر٠٠ وهذا يعني أن الافتداء لم يكن سببًا مباشرًا- أي: شرطًا- في نفي القبول، فاختلف بذلك وجها الكلام٠٠ ومن هنا كان لا بد من إدخال( الواو ) على( لو )؛ لتقوم بوظيفة الربط بين الافتداء، وعدم القبول، الذي لا ينسجم معه في الدِّلالة، ولتجعل منهما وحدة لغوية متلاحمة، يكمل بعضها الآخر بأسلوب بديع جمع بين الإيجاز البليغ، والمعنى الرفيع، فصار معنى الآية الكريمة: إن الذين يموتون على الكفر فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبًا، ولو جعله فدية يفتدي به نفسه من عذاب يوم القيامة٠ بمعنى: أنه لن يقبل منه على الرغم من افتدائه به٠
وجاءت( الفاء ) في قوله:﴿ فلن يقبل منه ﴾؛ لتؤكد هذا المعنى الذي ذكرناه٠ وبيان ذلك: أن الفاء، التي تقع في جواب الشرط، وفي خبر الذي، أو ما يقوم مقامه، تفيد أن ما بعدها محقق الوقوع، لا محالة؛ نحو قولك: إنْ زيدٌ أتاني فله درهم- الذي يأتيني فله درهم- إن الذي يأتيني فله درهم٠ المعنى في ذلك كله: أن الدرهم مستحق لصاحبه عقب إتيانه٠ ولهذا كان المتكلم ملزمًا بدفع الدرهم، وللمخاطب الحق في المطالبة به، إن لم يدفع له٠ فإن نزعت الفاء من ذلك، كان المتكلم على خيار من أمره إن شاء دفع الدرهم، وإن شاء لم يدفع٠
فإذا عرفت ذلك تبين لك الفرق بين هذه الآية، وبين قوله تعالى في آية أخرى:﴿ إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرًا لن تقبل توبتهم ﴾[آل عمران: ٩٠]٠ لم يقترن الخبر هنا بالفاء؛ لأن قبول التوبة من الذين كفروا ممكن، إن رجعوا عن كفرهم؛ لأتهم ما زالوا في الدنيا٠٠ فتأمل هذه الفروق الدقيقة، والأسرار البديعة، في البيان الأعلى٠
ولست أظن بعد هذا الذي ذكرته أن أحدًا ممن يعرف جوهر الكلام، ويدرك أسرار البيان، يمكن أن يسلم بما ذهب إليه النحاة والمفسرون من القول تارة بأن هذه الواو زائدة، وتارة أخرى بأنها عاطفة، أو حالية، وأن(لو) بعدها بمعنى(إن) الشرطية، وأنها( وصلية )٠ يريدون بذلك: أنها( زائدة )٠