عنهم فلو حاولوا أن يأتوا بأي كلام آخر ليعارضوه به لشعروا بذلك الإحساس يسد عليهم مسالك التعبير ولو استطاعوا ترتيب المعاني الذهنية في نفوسهم بعمق تصورهم وسعة خيالهم لخانتهم ألسنتهم وتعثرت في نهج البيان وإذ عجز العرب- الذين كان البيان سجية من سجاياهم - عن معارضته فمن بعدهم من المولدين أوغل في العجز وإن تعمقوا في دراسة سر البيان واستجلوا لطائف التعبير إذ ليس التطبع كالطبع (ليس التكحل في العينين كالكحل). ولو حاول ذلك لبدا لهم عجزهم من حيث يتخيلون قدرتهم فلو اشتغلوا بالحروف ينظمونها مع رعاية مخارجها ونبراتها وإيحاءاتها لفاتتهم المعاني وجاءوا بكلام لا يجدون له معنى، ولو اشتغلوا بالمعاني وتحرروا من التقيد بأسلوب القرآن لوجدوا الطباع نافرة عن تقبل ما يقولون مع العلم أن الكلام البليغ لا يوجد في فقرات قصيرة إلا في بعض الأمثلة التي تضرب وتأثير هذه الأمثلة في النفس موقوف على شرحها وبيان المناسبات التي قيلت فيها وأين ذلك كله من كلام الله الذي تجد الفقرة منه تغوص في أعماق النفس فتمتلك لبها بمجرد وصول حروفها إلى السمع. ولم أكن أظن أحدا من الناس وإن غلظ طبعه لا يحس بالفارق بين القرآن وغيره إذا تليت آية منه في وسط أي كلام مهما بلغ من شأو في حسن التركيب وجزالة المعنىوقد سمعت أن امرأة أوروبية لا تتفقه العربية أصغت إلى خطيب عربي كانت تتخلل خطبته آيات من القرآن فأخبرت الخطيب أنها شعرت بكلام من غير جنس كلامه يتخلل عباراته فأخبرها أن ذلك هو القرآن، وما أعجب إلا من حال الذين حرموا من هذا الذوق فلا يحسون بالفرق بين القرآن وغيره مع معرفتهم باللسان العربي وانطلاق ألسنتهم به. من دلائل الإعجاز في التعبير القرآني سومن دلائل الإعجاز في عبارة القرآن تميزه عن غيره من الكلام البليغ بكثرة الاحتمالات فإن كلام البشر كلما كان أبلغ كان أدل على المطلوب وأبعد عن الاحتمالات ولكن القرآن بما أنه صوت الغيب الموجه إلى
مسامع الدهر يعي كل زمن من أزمنة الدهر من معانيه بقدر ما يكون فيه من مقاييس الفكر وتطورات العلم ومن ثم تجد الإنسان في كل عصر يشعر إذا تلا القرآن أن حقائقه تتجلى أكثر ما تتجلى في العصر الذي هو فيه فتجد الأعرابي البدائي الذي ما كان يتخيل المراصد الجوية ولا درس شيئا من الهيئة الكونية إذ تلا قول الله تعالى (وَآيَةٌ لَهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُون وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (يسن/٣٧، ٣٩) يتصور منه المعاني التي تنطبق على فكره، ويتسع لها أفقه العلمي، كما تجد عالم الفلك الذي يستعين بالآلات المستحدثة المتنوعة على مهمته العلمية يتصور أن هذه الآيات ما جاءت إلا لتخاطب عقله وعقول نظرائه من العلماء الباحثين ومثل هذه الآيات قول الله تعالى (تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا) (الفرقان/٦٢) وقوله تعالى (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا) (الأعراف/٥٤) وقوله (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ) (الزمر/٥) بل تجد صاحب كل تخصص علمي في كل عصر يستخرج من القرآن الحقائق العلمية بحسب ما أوتي من فهم وما وصل إليه من اكتشاف ولا تجد ما يدل على التصادم بين نصوص القرآن ومدلولات العلم وإن اختلفت أطوار العلماء وتباينت مذاهبهم العلمية فكيف وسع هذا القرآن الدهر كله وجاءت عباراته - مع بلاغتها التي تنحط دونها بلاغة البلغاء - منسجمة مع إفهام الناس المختلفة باختلاف الأطوار الثقافية. ما تمتاز به بلاغة القرآن