" يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ "(يونس: ٢٣)
وفي ذلك من التحذير، والوعيد بالعذاب ما فيه! ثم أتبع سبحانه وتعالى ذلك التحذير والوعيد بضرب المثل لهم، فقال جلَّ شأنه:
" إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ "(يونس: ٢٤)
فالمقام- في هذا المثل - مقام تبيين وتفصيل؛ ولهذا اهتمَّ سبحانه وتعالى فيه بشرح الخطوات، التي تخطوها الحياة الدنيا في طريق النهاية، فتابع مراحل نزول الماء من السماء، ولم يدع حالة من حالاته إلا نصَّ عليها.. فالماء ينزل من السماء، فيختلط به نبات الأرض، ويظهر أثر هذا الاختلاط فيما يكتسبه من حسن واخضرار وازدهار، حتى إذا استكملت به الأرض حسنها، ولبست بألوانه المتنوعة، وأشكاله المختلفة أبهى حُلَلِها، وأجمل حِليِّها، واطمأنَّ إليه أهلها؛ لسلامته من الآفات، وبلوغه مرحلة القطاف والحصاد، أتاه أمر الله تعالى بغتة، فجعله حصيدًا؛ كأن لم يَغنَ بالأمس.
ولما أراد الله تعالى أن يصور سرعة انقلاب الحياة الدنيا على أصحابها، وإدبارها عنهم بعد إقبالها عليهم، ضرب لهم المثل، الذي يصور فناء الدنيا، وسرعة تقضيها، بما يشاهدونه في حياتهم من سرعة ذبول النبات وجفافه، ثم هلاكه بعد زهائه واخضراره، فقال سبحانه:
" وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا "
(الكهف: ٤٥).
فكان المقام- هنا- مقام تصوير لحال الدنيا في سرعة إقبالها، وإدبارها اقتضاه سياق الآيات، وهو أشبه بحال الصاحب الكافر، الذي أخبر الله تعالى عنه بقوله:
" وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا "(الكهف: ٣٥-٣٦)
فهذا الكافر المعجَب بما أوتي من نعيم الدنيا، المفتخِر به، يقسِم لصاحبه، إن رُدَّ إلى ربه- على سبيل الفرض والتقدير- ليَجدَنًّ في الآخرة خيرًا من جنته.. وهكذا أصابه الغرور في مقتله، فأصبح، لمَّا أحيط بثمره..
" يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا "(الكهف: ٤٢).
هذا الانقلاب السريع، من حال إلى حال بهذه السرعة، لا يناسبه إلا بناءُ التشبيه- في هذا المثل، الذي أعقبه- على طيِّ مراحل نمو النبات وزهائه واخضراره؛ ولهذا قال سبحانه:
" فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ "
فأتى بالفاء العاطفة، التي تشعِر بهلاك النبات وانتهائه إلى تلك الصفة؛ وهي كونه هشيمًا، تذروه الرياح.
٢- وثاني الفروق بين المثلين: أن الله تعالى قال في هذا المثل:
" فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ "
فقيَّد الخبر بـ" أَصْبَحَ "؛ ليدلَّ به على سرعة هلاك النبات، وتحوله من حالة جيدة، كان عليها في المساء إلى حالة سيئة، أصبح عليها القوم في الصباح،" فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ "(الصافات: ١٧٧).
وقال تعالى هنا:" فَأَصْبَحَ هَشِيمًا "، فعبَّر عن هلاك النبات بالهشيم؛ لأنه من الهَشْم. والهَشْمُ هو كسْرُ الشيء الرَّخْوِ وتفتيته، ويختصُّ بما هو رَطبٌ، ثم يصير يابسًا؛ كالنبات، والخبز، وغيرهما. والعرب تسمِّي كل شيء كان رطبًا، فيبس: هشيمًا. والهشيم أيضًا هو الرجل الضعيف.
وأصل الهشيم: النبت إذا جفًّ ويبس، فأذرته الريح؛ وذلك للطفه وخفته، وتلك هي حال الذرِّ؛ ولهذا قال سبحانه:" تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ "، فعبَّر عن هذا المعنى بـ" تَذْرُوهُ "، لما في ذرا، يذرو من معنى الارتفاع، والسرعة. يقال: ذرا فلان يذرو: ارتفع، ومرَّ مرًّا سريعًا، ومنه سُمِّيت الرياح بالذاريات. قال تعالى:
" وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا "(الذاريات : ١)
وإنما سميت بذلك؛ لأنها تحمل التراب، أو الهشيم عاليًا، وتفرقه بسرعة في كل جهة؛ بحيث يستحيل إعادته كما كان.
وفي حديث علي كرَّم الله وجهه:" يذرو الرواية ذَرْوَ الريحِ الهشيمَ ". أي: يسرد الرواية؛ كما تنسف الريح هشيم النبت.. وقال الخليل معلِّلاً لتسمية بني آدم ذرية:" إنما سُمُّوا: ذريَّة؛ لأن الله تعالى ذراها على الأرض؛ كما ذرأ الزارع البَذْرَ ".
أما في المثل السابق فقال تعالى:
" فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا "