فهذه الجملة سيقت لإظهار هول العذاب، وذلك بإظهار التأثير الشديد لأقله، فإن جميع ألفاظ الجملة تفيد التقليل وتمدّه بالقوة كي يظهر الهول وشدة العذاب في الكثير منه.
فلفظ "لئن" للتشكيك والشك يوحي القلة.
ولفظ "مس" للإصابة القليلة ليست البالغة وهو يفيد القلة أيضاً.
ولفظ "نفحة" يفيد القلة لأنه مصدر المرة الواحدة.
ولفظ "من" للتبعيض بمعنى أنه جزء من العذاب لا العذاب كله.
ولفظ "عذاب" هو نوع خفيف من الجزاء قياساً لأنواع النكال، فهو يشير إلى القلة أيضاً.
ولفظ "ربك" يتناسب مع هذا المقام الذي يفيد قلة العذاب فاستعمل لفظ "ربك" الذي يشعر بالشفقة والرحمة، ولم يستعمل لفظ الجبار أو القهار أو المنتقم.
فتأمل كيف يكون العذاب شديداً ومؤثراً مع هذه القلة التي صورها وذكرها في هذا النظم البديع، وذلك مما يحرض الإنسان العاقل على التيقظ وعدم الغفلة عن النار الحامية التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين، فيتقيها المؤمن ولو بشق تمرة.
١. قوله - تعالى -: ((ومما رزقناهم ينفقون))
إذا تدبرت هذه الجملة الوجيزة، فإنك تجد فيها من بديع النظم وبلاغة القول والمدلول الواسع، ما لا يمكن لبشر أن يحسن التعبير عنه بمثل هذه الألفاظ الموجزة.
فقد ذكرت وصفاً مهماً للمؤمنين الذين يبتغون وجه الله - عز وجل - فيما ينفقونه بخلاف غيرهم، ووضعت للصدقة المقبولة شروطاً:
الأول: أن الإنفاق يكون من بعض المال لا كله، فيكون إسرافاً، وهذا ما أفادته لفظة "من" التبعيضية، وبيانه جاء في موضوع آخر من القرآن كقوله - تعالى -: ((والذين في أموالهم حق معلوم)) [المعارج: ٢٤].
الثاني: أن يتصدق من ماله، لا أن يأخذ من مال الآخرين ثم يتصدق، وهذا المفهوم يستفاد من قوله "رزقناهم" فالضمير "هم" يفيد بأن الإنفاق مما يخص مالهم.
الثالث: أن يعلم المتصدق أن المال الذي ينفق منه إنما هو مال الله، فلا يعطي وعنده شعور بالكبر أو المنة على المنفق عليه لأن الرزاق هو الله والمال مال الله والله يؤتي ملكه من يشاء، وهذا المفهوم يؤخذ من الضمير "نا" في قوله "رزقناهم"، وبيان هذا ذكر في موضع آخر من القرآن منها في قوله - تعالى -: ((وآتوهم من مال الله الذي آتاكم)).
الرابع: أن ينفق على من يضع النفقة في موضع حاجاته الضرورية فلا ينفق على من يستعمل المال في السفاهة أو في مساخط الله - عز وجل -.
الخامس: أن يكون مخلصاً في عمله يبتغي وجه الله والدار الآخرة، وهذا المفهوم يستفاد من الضمير "نا" الدالة على عظمة الله - تعالى - في قوله: "رزقناهم".
ثم إن هذه الجملة أفادت معنى آخر وهو عموم الصدقة، فلا تكون قاصرة على التصدق بالمال، فمن رزقه الله علماً عليه أن يبذل مما علّمه الله لهداية الناس ودعوتهم إلى عبادة الله - عز وجل -، فإن زكاة العلم العمل به، والذي يملك جاهاً عليه أن يتصدق بجاهه في الإصلاح بين الناس والدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. قال - تعالى -: ((لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما)) [النساء: ١١٤].
وعموم الصدقة يندرج تحت لفظة "مما".
قوله - تعالى -: ((إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين)) [القصص: ٤].
إذا تدبرت هذه الآية وجدتها تشتمل على ست كلمات سناؤها وضياؤها على ما ترى، وسلاستها وماؤها على ما تشاهد ورونقها على ما تعاين وفصاحتها على ما تعرف.
وهي تشتمل على جملة وتفصيل، وتفسير ذكر العلو في الأرض باستضعاف الخلق بذبح الولدان واستحياء النساء وإذا تحكم في هذين الأمرين، فما ظنك بما دونها، لأن النفوس لا تطمئن على هذا الظلم والقلوب لا تقر على هذا الجور.
ثم ذكر الفاصلة التي أوغلت في التأكيد وكفت في التظليم وردت آخر الكلام على أوله وعطفت عجزه على صدره. وغير ذلك من الأمثلة كثير.
١. تصوير المعاني الذهنية والحالات النفسية وإبرازها في صور حسيّة.
طريقة القرآن التصويرية عن الحياة التي تبثها الألفاظ في كل أمر يذكره من أمور الحياة الدنيا والآخرة بل في هذا الكون كله في السموات أو في الأرض، من جامد ومتحرك، جماد أو إنسان أو حيوان، هي سمة بارزة ميزته عن غيره من كلام الخلق شعراً أو نثراً، فما ذكر القرآن جماداً إلا جعله نابضاً بالحياة، ولا عرض مألوفاً إلا بدا جديداً، وهنا يكمن سر الإعجاز في بيان القرآن، قال - تعالى - في قصة موسى والعبد الصالح: ((حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه)) [الكهف: ٧٧].
وقال - تعالى -: ((قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون)) [النمل: ١٨].
وقال - تعالى -: ((والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم، والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم، لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون)) [يس: ٣٨ - ٤٠].
وقال - تعالى -: ((فأحيينا به الأرض بعد موتها)) [فاطر: ٩].


الصفحة التالية
Icon