إذن فالبلاغة تتم في استعمال " أثاقلتم " للمعنى المراد، ولا تكون في " تثاقلتم ".
المظهر الثالث:
الجملة القرآنية وصياغتها
إن دراسة الجملة القرآنية تتصل اتصالا مباشراً بدراسة المفردة القرآنية لأن هذه أساس الجملة، ومنها تركيبها، وإذا كان علماء البلاغة يجعلون البلاغة درجات، فإنهم مقرون دون جدل أن صياغة العبارة القرآنية في الطرف الأعلى من البلاغة الذي هو الإعجاز ذاته. وللإعجاز فيها وجوه كثيرة.
فمنها: ما تجده من التلاؤم والاتساق الكاملين بين كلماتها، وبين ملاحق حركاتها، وسكناتها، فالجملة في القرآن تجدها دائماً مؤلفة من كلمات وحروف، وأصوات يستريح لتألفها السمع والصوت والمنطق، ويتكون من تضامها نسق جميل ينطوي على إيقاع رائع، ما كان ليتم لو نقصت من الجملة كلمة أو حرف أو اختلف ترتيب ما بينها بشكل من الأشكال.
أقرأ قوله - تعالى -: فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ ﴿١١﴾ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاء عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ﴿١٢﴾ [سورة القمر].
وتأمل تناسق الكلمات في كل جملة منها، ثم دقق نظرك، وتأمل تألف الحروف الرخوة مع الشديدة والمهموسة والمجهورة وغيرها، ثم تمعن في تأليف وتعاطف الحركات والسكنات والمدود اللاحقة ببعضها، فإنك إذا تأملت في ذلك، علمت أن هذا الجملة القرآنية. إنما صبت من الكلمات والحروف والحركات في مقدار، وأن ذلك إنما قدر تقديراً بعلم اللطيف الخبير وهيهات للمقاييس البشرية أن تضبط الكلام بهذه القوالب الدقيقة.
و منها: إنك تجد الجملة القرآنية تدل بأقصر عبارة على أوسع معنى تام متكامل لا يكاد الإنسان يستطيع التعبير عنه إلا بأسطر وجمل كثيرة ن دون أن تجد فيه اختصاراً مخلا، أو ضعفاً في الأدلة. أقرأ قوله - تعالى -: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) (لأعراف: ١٩٩).
ثم تأمل كيف جمع الله بهذا الكلام كل خلق عظيم، لأن في أخذ العفو صلة القاطعين والصفح عن الظالمين.
و اقرأ قوله - تعالى - مخاطباً آدم - عليه السلام -: ﴿١١٧﴾ إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى ﴿١١٨﴾ وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى ﴿١١٩﴾ [سورة طه] ثم تأمل كيف جمع الله بهذا الكلام أصول معايش الإنسان كلها من طعام وشراب وملبس، ومأوى.
و أقرأ قوله - تعالى -: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) (القصص: ٧).
وتأمل كيف جمعت هذه الآية الكريمة بين أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين أما الأمرين فهما: " أرضعيه، وألقيه في اليم، وأما النهيان فهما " لا تخافي "، و" لا تحزني ".
و أما الخبران فهما " أوحينا " و" خفت " وأما البشارتان فهما " أنا رادوه إليك " و" جاعلوه من المرسلين ".
و تأمل سورة " الكوثر " وهي أقصر سورة في القرآن إذ هي ثلاثة آيات قصار كيف تضمنت، على قلة آياتها الأخبار عن مغيبين: أحدهما: الأخبار عن الكوثر " نهر في الجنة " وعظمته وسعته وكثرة أوانيه، الثاني: الإخبار عن " والوليد بن المغيرة " وكان عند نزولها ذا مال وولد، ثم أهلك الله - سبحانه - ماله وولده، وانقطع نسله
ومنها: أخراج المعنى المجرد في مظهر الأمر المحس الملموس، ثم بث الروح والحركة في هذا المظهر نفسه.
و مكمن الإعجاز في ذلك، أن الألفاظ ليست إلا حروفاً جامدة ذات دلالة لغوية على ما أنيط بها من المعاني، فمن العسير جداً أن تصبح هذه الألفاظ وسيلة لصب المعاني الفكرية المجردة في قوالب من الشخوص والأجرام والمحسوسات، تتحرك في داخل الخيال كأنها قصة تمر أحداثها على مسرح يفيض بالحياة والحركة المشاهدة الملموسة. أستمع إلى القرآن الكريم وهو يصور لك قيام الكون على أساس من النظام الرتيب والتنسيق البديع الذي لا يتخلف، ولا يلحقه الفساد، فيقول: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) (لأعراف: ٥٤).
إنه يصور لك هذا المعنى في مظهر من الحركة المحسوسة الدائرة بين عينيك، وكأنها أمام آلات تتحرك بسرعة دائبة في نظام مستمر يعيها وتصورها الشعور والخيال.
الباحثون في القرآن يجمعون على إعجازه
الجاحظ ورأيه في بلاغة القرآن:
الجاحظ هو مؤسس البيان العربي بلا منازع، هو أبو عثمان بن بحر بن محبوب الكتاني، المعروف بالجاحظ البصري ولد سنة ١٥٠ هـ وتوفي سنة ٢٥٥هـ.