العاصفة، متهدج الصوت، طويل النفس، ما تبرح أصداء كلماته تتجاوب في أعماق شديدة التأثير. بل أن زكريا في دعائه ليحرك القلوب المتحجرة بتعبيره الصادق عن حزنه وأساه خوفاً من انقطاع عقبه، وهو قائم يصلي في المحراب لا ينئ ينادي أسم ربه نداء خفياً، ويكرر اسم " ربه " بكرة وعشياً، ويقول في لوعة الإنسان المحروم وفي إيمان الصديق الصفي: ﴿٣﴾ قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا ﴿٤﴾ وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا ﴿٥﴾ يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ﴿٦﴾ [سورة مريم].
و إن البيان لا يرقى هنا إلى وصف العذوبة التي تنتهي في فاصلة كل آية بيائها المشددة وتنوينها المحول عند الوقف ألفا لينة كأنها في الشعر ألف الإطلاق: فهذه الألف اللينة الرخية المنسابة تناسقت بها " شقياـ وليا ـ رضياً " مع عبد الله زكريا ينادي ربه نداء خفياً، ولقد استشعرنا هذا الجو الغنائي ونحن نتصور نبياً يبتهل وحده في خلوة مع الله، وكدنا نصغي إلى ألحانه الخفية تتصاعد في السماء، فكيف بنا لو تصورنا جماعة من الصديقين الصالحين وهم يشتركون: ذكرانا وإناثا، شبانا ً بأصوات رخيمة متناسقة تصعد معا وتهبط معا وهي تجأر إلى الله، وتنشد هذا النشيد الفخم الجليل: " ربنا ما خلقت هذا باطلاً، سبحانك فقنا عذاب النار، ربنا إنك من تدخل النار فقد أخذيته، وما للظالمين من أنصار، ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان أن آمنوا بركم فأمنا، ربنا فأغفر لنا ذنوبنا، وكفر عنا سيأتينا، وتوفنا مع الأبرار، ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد ".
إن في تكرار عبارة " ربنا " لما يلين القلب، ويبعث فيه نداوة الإيمان، وأن في الوقوف بالسكون على الراء المذلقة المسبوقة بهذه الألف اللينة لما يعين على الترخيم والترنيم، ويعوض في الأسماع أحلى ضربات الوتر على أعذب العيدان.
و لئن كان في موقفي الدعاءين هذين نداوة ولين، ففي بعض مواقف الدعاء القرآني الأخرى صخب رهيب، ها هو ذا نوح - عليه السلام - يدأب ليلاً ونهاراً على دعوة قومه إلى الحق، ويصر على نصحهم سراً وعلانية، وهم يلجون في كفرهم وعنادهم، ويفرون من الهدى فراراً، ولا يزدادون إلا ضلالاً واستكباراً، فما على نوح ـ وقد أيس منهم ـ إلا أن يتملكه الغيظ ويمتلئ فمه بكلمات الدعاء الثائرة الغضبى تنطلق في الوجوه مديدة مجلجة، بموسيقاها الرهيبة، وإيقاعها العنيف، وما تتخيل الجبال إلا دكا، والسماء إلا متجهمة عابسة والأرض إلا مهتزة مزلزة، والبحار إلا هائجة ثائرة، حين دعا نوح على قومه بالهلاك والتيار فقال: ﴿٢٥﴾ وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ﴿٢٦﴾ إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا ﴿٢٧﴾ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا ﴿٢٨﴾ [سورة الأحزاب].
أما الحناجر الكظيمة المكبوتة التي يتركها القرآن في بعض مشاهده تطلق أصواتها الحبيسة ـ بكل كربها وضيقها وبحتها وحشرجتها ـ فهي حناجر الكافرين النادمين يوم الحساب العسير، فيتحسرون ويحاولون التنفيس عن كربهم ببعض الأصوات المتقطعة المتهدجة، كأنهم بها يتخففون من أثقال الدين يدعون ربهم دعاء التائبين النادمين ويقولون (وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا) (الأحزاب: ٦٧).
و إن هذه الموسيقى الداخلية لتنبعث في القرآن حتى من اللفظة المفردة في كل آية من آياته، فتكاد تستقل ـ بجرسها ونغمها ـ بتصوير لوحة كاملة فيها اللون زاهياً أو شاحباً، وفيها الظل شفيقاً أو كثيفاً. أرأيت لونا أزهي من نضرة الوجوه السعيدة الناظرة إلى الله، ولونا أشد تجهما من سواد الوجوه الشقية الكالحة الباسرة في قوله - تعالى -: ﴿٢١﴾ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ ﴿٢٢﴾ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴿٢٣﴾ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ ﴿٢٤﴾ [سورة القيامة]. لقد استقلت في لوحة السعداء لفظة " ناضرة " بتصوير أزهى لون وأبهاه، كما استقلت في لوحة الأشقياء لفظة " باسرة " برسم أمقت لون وأنكاه
محاولات تحدي القرآن
حاول الكثيرين ممن أخذ القرآن بلب عقولهم؛ تحدي القرآن، فعجزوا عن ذلك.. وأصيبوا بالخيبة والفشل الذريع.. فكيف يقارن كلام العباد بكلام رب العباد؟؟! ولعل أهم القصص التي تجسد لنا هذه المحاولات، هي..
قصة لبيد بن أبي ربيعة -رضي الله عنه- ذلك الشاعر الصنديد، الذي اعترفت العرب جميعا بشاعريته.. عندما سمع تحدي القرآن للناس، ولم يكن قد سمع به، كتب أبياتا من الشعر وعلقها على ستار الكعبة.. فرأى ذلك أحد المؤمنين، فأخذته عزة الإسلام فكتب آيات من القرآن فوضعها بجانبها..