ولما كان التفوق عنصراً مشتركاً بين المعجزات الحسية والعقلية على حد سواء، كان القرآن ـ وهو معجزة نبينا محمد - ﷺ - ـ متفوقاً عما يشاكله من كلام البشر، غير أنَّ القوم أنكروا هذا التفوق، وقالوا حين تليت عليهم آياته: (قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ)([١٤]) وجاء التحدي (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ)([١٥]).
[٥] التحدي بالقرآن:
وحار القوم في إجابة هذا التحدي، كيف يأتون بكلام مثل هذا الكلام كله؟ ربما قد حاولوا، ولكنهم عجزوا، وقالوا: (إِنْ هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ)([١٦])، فتجاوز لهم عن بعض ما طولبوا به، ولم يشأ أنْ يفلتوا بما أعذروا أنفسهم به، فلئن كان حديثاً مفترى أعين عليه (فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ)([١٧])، وما أجداهم أنْ يستعينوا بمَنْ شاءوا ومَنْ استطاعوا في أنْ يأتوا بالعشر المفتريات، فأرخى لهم إمعاناً في التحدي الساخر بقدرتهم، فتجاوز عن العشر إلى واحدة مع العون أيضاً فقال: (قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ)([١٨])، ولئن تقاصرت قدرتكم أنْ تأتوا بسورة مماثلة لسورة على التحديد (فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)([١٩])، فربما كانت مماثلته على التقريب أيسر عليكم من مماثلة على التحديد.. وهذا ما أشارت إليه آية البقرة باستخدام لفظ (مِن مِّثْلِهِ).
[٦] حالة العرب الفكرية:
لن نعجل بالجواب، قبل أنْ نلقي نظرة على حالة العرب الفكرية والبيانية قبيل عصر المبعث، لنرى مبلغ رُقِيّهم الفكري والأدبي، ممثلاً في أسواقهم الأدبية، يعرضون فيها أنفس بضاعتهم من الكلام، وأغلب صناعتهم من الشعر والبيان، يتبارون في عرضها ونقدها واختيار أحسنها، والمفاخرة بأجودها، كذلك لم يكن غريباً أنْ نرى القرآن ـ وقد صادف هذا المستوى الفكري لدى هؤلاء العرب ـ أنْ يناقش ويجادل عن نفسه، وأنْ يشتد في جداله ودفاعه ويعلو صوته حتى يصافح وجه السماء، فما ذاك إلاَّ أنه وجد أمامه خصوماً ألداء وأعداء أشداء، أوتوا حظاً من نضج الفكر، وبلاغة القول، وعزة النفس. كذلك لم يشأ الله أنْ تكون آيته إليهم إلاَّ القرآن، آية عقلية تناسب نضجهم الفكري، ورتبتهم في سلم الرُّقي البشري، وكلما ارتكسوا في حمأة اليأس من معارضته، ونكسوا على رؤوسهم في طلب معجزة حسية، أبى الله ذلك ـ وكان قادراً على أنْ ينزل عليهم آية فتظل أعناقهم لها خاضعين ـ لأنهم تجاوزوا دور الطفولة البشرية، وتخطوا مرحلة البلادة الفكرية التي اقتضت أنْ تكون معجزة البشرية في تلك المرحلة حسية([٢٠]).
نحن إذاً أمام مجتمع حي قادر على التفكير، ترى ما الذي منعه أنْ يرد على هذا التحدي؟
[٧] وجوه الإعجاز:
ما الذي أعجزه أنْ يبذل جهده في المعارضة؟
وهنا يأتي الجواب: إنه العجز عن التشبع بالمعاني الجديدة التي كان يطرقها القرآن، وهذا بعض المعجزة، إنه العجز عن الوقوف على أسرار البلاغة القرآنية، وطريقة تناول الآيات للمعاني، وهذا باقي المعجزة.
وهكذا أنبأنا التاريخ بهذا العجز في عصر القرآن، ولكن لم تُطْو صفحة التحدي في العصر الذي بعده وأهله بعد على سلائقهم العربية، وفيهم من يود أنْ يتأتى على هذا الدين من أساسه، وما أيسره عليه لو دخل إليه من باب القرآن بقبول التحدي، ولكن التاريخ لم يسجل لأحد فيه قدرة على ذلك، بل حِيل بينهم وبين ما يشتهون كما فُعِلَ بأشياعهم من قبل.
ومضت القرون، وورث اللُّغة عن أهلها الوارثون، وكلما تطاول الزمان بين عصر المبعث والعصور التالية له، كان أهلها أشد عجزاً، وأقل طمعاً في هذا المطلب العزيز، لانحراف ألسنتهم وفساد سلائقهم، وكانت شهادة على إعجاز القرآن إلى أنْ تطوى صفحة هذا الوجود، ويرث الله - تعالى -الأرض ومن عليها.
ونحن وإنْ كنا نذهب مذهب القائلين بأنَّ عجز القوم راجع إلى نظم القرآن وبلاغته، وشرف معناه ودقته؛ فما ذاك إلاَّ لأنه لم يصح وجه آخر لإعجاز القرآن سواه عند التحدي أول عهد العرب به، وأنَّ ما أضيف إلى إعجازه البلاغي من وجوه أخرى كالإعجاز الغيبي، والإعجاز العلمي، والإعجاز التشريعي، فإنما كان ذلك عندما اكتمل عقد القرآن، ونظر الباحثون إليه جملة.
ونحن لا ننكر هذه الوجوه أنْ تكون من آيات إعجازه؛ وإنما نريد أنْ نؤكد:
أولاً: أنَّ التحدي بالقرآن كان في حدود ما نزل من سوره في بداية الدعوة.
وثانياً: أنَّ التحدي كان في أدنى مراتبه بأقصر سورة منه.
وثالثاً: أنَّ التحدي كان بوجه مما برع القوم فيه شأن المعجزات.
فما وجه الإعجاز إذاً إنْ لم يكن الإعجاز البلاغي، فهو عنصر قائم في أقصر سورة من القرآن، وهو مناط براعة القوم، وهو أسبق من غيره تمثلاً فيما نزل.


الصفحة التالية
Icon