ولا تستطيع التحول عنها إلى اتجاه معاكس إلا ضمن بيئة ملائمة.
أما الأسلوب القرآني فيلاحظ فيه الانتقال في شتى الاتجاهات في لحظات متقاربة متتالية، وأحياناً تكون مترادفة. فمن مشرّع حكيم يقر الدساتير والأنظمة في تؤدة وأناة ورويّة، إلى وعيد وتهديد لمن يرغب عن التشريعات ويريه سوء المصير، إلى غافر يقبل توبة العبد إذا تاب وأناب، إلى معلم يعلم كيفية الالتجاء إلى الخالق سبحانه وتعالى بأدعية لا تخطر على البال، إلى مقر لحقائق الكون الكبرى، ومن مرئيات الناس ومألوفاتهم والتدرج بهم إلى أسرار سنن الله في الكون
لنتأمل قوله تعالى :(مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴿٦٧﴾ لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴿٦٨﴾ فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)[الأنفال: ٦٧ ـ ٦٩].
هاتان الآيتان نزلتا بعد إطلاق أسرى بدر وقبول الفداء منهم. وقد بدأتا بالتخطئة والاستنكار لهذه الفعلة، ثم لم تلبث أن ختمتا بإقرارها وتطييب النفوس بها بل صارت هذه السابقة التي وقع التأنيب عليها هي القاعدة لما جاء بعدها.
فهل الحال النفسية التي يصدر عنها أول هذا الكلام ـ لو كان عن النفس مصدره ـ يمكن أن يصدر عنها آخره ولمّا تمض بينهما فترة تفصل بين زمجرة الغضب وبين ابتسامة الرضى والاستحسان ؟ إن هذين الخاطرين لو فرض صدورهما عن النفس متعاقبين لكان الثاني منهما إضراباً عن الأول ماحياً له ولرجع آخر الفكر وفقاً لما جرى به العمل.
فأي داعٍ دعا إلى تصوير ذلك الخاطر المحمود وتسجيله على ما فيه من تقريع علني وتغيص لهذه الطعمة التي يراد جعلها حلالاً طيبة ؟
إن الذي يفهمه علماء النفس من قراءة هذا النص أن ها هنا شخصيتين منفصلتين وان هذا صوت سيد يقول لعبده: لقد أخطأت ولكني عفوت عنك وأذنت لك[٣].
ومن الأمور المميزة للأسلوب القرآني طريقة استدلاله بأشياء وأحداث مثيرة صغيرة في ظاهرها وهي ذات حقيقة ضخمة تتناسب والموضوع الضخم الذي يستدل بها عليه. تامل في قوله تعالى :(نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ ﴿٥٧﴾ أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ ﴿٥٨﴾ أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ ﴿٥٩﴾ نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ﴿٦٠﴾ عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴿٦١﴾ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذكَّرُونَ ﴿٦٢﴾ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ ﴿٦٣﴾ أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ ﴿٦٤﴾ لَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ ﴿٦٥﴾ إِنَّا لَمُغْرَمُونَ ﴿٦٦﴾ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ﴿٦٧﴾ أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُونَ ﴿٦٨﴾ أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ ﴿٦٩﴾ لَوْ نَشَاء جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ ﴿٧٠﴾ أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ ﴿٧١﴾ أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِؤُونَ ﴿٧٢﴾ نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِّلْمُقْوِينَ﴿٧٣﴾ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ)[الواقعة: ٥٧ـ٧٤].
ومثل هذه الإشارات ترد كثيراً في القرآن الكريم لتجعل من مألوفات البشر وحوادثهم المكرورة قضايا كونية كبرى يكشف فيها عن النواميس الإلهية في الوجود، يقرر بها عقيدة ضخمة شاملة وتصوراً كاملاً لهذا الوجود كما يجعل منها منهجاً للنظر والتفكير وحياة للأرواح والقلوب ويقظة في المشاعر والحواس.
إن هذه الظواهر هي حقائق ضخمة ولكن الإلف والعادة بلّدت حواس الناس فلا تشعر بدلالاتها.
إن الأنفس من صنع الله، وما حول الناس من ظواهر الكون من إبداع قدرته، والمعجزة كامنة في كل ما تبدعه يده، وهذا القرآن قرآنه. ومن ثمّ يأخذهم إلى هذه المعجزات الكامنة فيهم والمبثوثة في الكون من حولهم، يأخذهم إلى هذه الخوارق المألوفة لديهم التي يرونها ولا يحسون حقيقة الإعجاز فيها لأنهم غافلون عن مواضيع الإعجاز فيها.
يمسهم الأسلوب القرآني بهذه اللفتات الاستفهامية المتتالية ليفتح عيونهم على السر الهائل المكنون، سرّ القدرة العظيمة وسرّ الوحدانية المفردة ليثير في فطرتهم الإقرار الأول في عالم الذر.. (ألست بربكم )[الأعراف: ١٧٢].
إن طريقة القرآن الكريم في مخاطبة الفطرة البشرية تدل بذاتها على مصدره إنها المصدر الذي صدر منه الكون، فطريقة بنائه هي طريق بناء الكون من أبسط المواد الكونية تنشأ أعقد الأشكال وأضخم الخلائق.
والقرآن يتخذ من أبسط المشاهدات المألوفة للبشر مادة لبناء أضخم عقيدة دينية وأوسع تصور كوني، المشاهدات التي تدخل في تجارب كل إنسان : النسل، الزرع، الماء، النار، الموت.


الصفحة التالية
Icon