وأما الفرق بين " لَا "في قوله تعالى:" لَا أُقْسِمُ بِكَذَا "، وبينها في قوله تعالى:" فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ "(النساء: ٦٥) فيبينه أن الأولى موصولة بالقسم، وأن الثانية منفصلة عنه، والدليل على ذلك دخول الواو بينهما.
وأما الفرق بين نفي القسم، ونفي الحاجة إلى القسم، فقد أجابت عنه الدكتورة بنت الشاطىء بقولها:”وفرق بعيد أقصى البعد بين أن تكون"لَا "لنفي القسم- كما قال بعضهم- وبين أن تكون لنفي الحاجة إلى القسم؛ كما يهدي إليه البيان القرآني.. ومن نفي الحاجة إلى القسم يأتي التأكيد، والتقرير؛ لأنه يجعل المقام في غنًى بالثقة واليقين عن الإقسام. والسر البياني لهذا الأسلوب يعتمد في قوة اللفت- على ما يبدو- بين النفي، والقسم من مفارقة مثيرة لأقصى الانتباه، وما زلنا بسليقتنا اللغوية نؤكد الثقة بنفي الحاجة معها إلى القسم، فنقول لمن نثق فيه: لا تقسم. أو: من غير يمين، مقررين بذلك أنه موضع ثقتنا، فليس بحاجة إلى أن يقسم لنا “.
وأما القول بأن﴿ لا أقسم ﴾ بمعنى:﴿ أقسم ﴾، بدليل قوله تعالى:" وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ "(الواقعة: ٧٦ )فقد أجاب عنه الأستاذ محمد إسماعيل عتوك في مقاله﴿ دخول{ لا ﴾ النافية على فعل القسم}، والموجود على هذا الرابط:
http://www. ٥٥a.net/firas/arabic/"page=show_det&id=١٢٩٤&select_page=٩
وفيه من البيان والتوضيح في تفسير هذا التركيب القرآني ما يكفي.
٢- والسر الثاني من أسرار هذه السورة الكريمة سرُّ نفي الفعل" نَجْمَع " بـ" لََنْ "، وتخيصه بـ﴿ العظام ﴾، في قوله تعالى:
" أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ "(القيامة: ٣)
ولمَّا عُدِلَ عن القسم المباشر بيوم القيامة والنفس اللوَّامة اكتفاء بالتلويح به، عُدِلَ عن ذكر المقسَم عليه، وكان ظاهر الكلام يقتضي أن يقال:
" لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ* وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ "، " لَتُبْعَثُنَّ "
ولكن عُدِلَ عن هذا للعلة السابقة، وجيء به في صورة أخرى؛ كأنها ابتداء لحديث، بعد التنبيه إليه، بهذا المطلع، الذي يوقظ الحس والمشاعر:
" أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ "(القيامة: ٣)
وقد كانت المشكلة الشعورية عند المشركين هي صعوبة تصورهم لجمع العظام البالية، الذاهبة في التراب، المتفرقة في الثرى، لإعادة بعث الإنسان حيًّا! وهي مشكلة لا تزال كذلك عالقة في بعض النفوس الضعيفة والمريضة إلى يومنا هذا ! وقد تردد ذكرها في القرآن كثيرًا على ألسنة المشركين، ومن ذلك قوله تعالى حكاية عنهم:
" وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ " *" أَوَآَبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ "(الواقعة: ٤٧- ٤٨)
والقرآن الكريم يردُّ عليهم، فيقول سبحانه:
" قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآَخِرِينَ " * " لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ "(الواقعة: ٤٩- ٥٠)
ونحو ذلك قوله تعالى:
" وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ "(يس: ٧٨)
ويأتي الرد من الله تعالى:
" قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ "(يس: ٧٩)
ومثل ذلك قوله تعالى هنا:
" أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ "(القيامة: ٣)
فجاءت الآية على جهة التوبيخ لهم، في اعتقادهم أن الله تعالى لا يجمع عظامهم، فردَّ عليهم تعالى بقوله مؤكدًّا وقوعه:
" بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ "(القيامة: ٤)
والمعنى: أيحسب الإنسان بعد أن خلقناه من عدم أن لن نجمع ما بلى وتفرق من عظامه ؟ بلى ! إننا لقادرون على أن نسوِّيَ أطراف أصابعه الصغيرة، ونجعلها كما كانت قبل الموت، فكيف بالعظام الكبار.
وقد أعاد الله تعالى هذا الاعتراض مع الجواب عليه بصورة أخرى، في آخر السورة، فقال سبحانه:
" أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى *أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى *ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى *فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى *أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى "(القيامة: ٣٦- ٤٠)
والاستفهام في قوله تعالى:" أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ " لإنكار الواقع واستقباحه والتوبيخ عليه. والتعريف في" الْإِنْسَانُ " تعريف الجنس، والمراد به هنا جنس الكافر، المنكر للبعث.