وفي المستدرك على الصحيحين: عن سعيد بن جبير، قال:”قلت لابن عباس رضي الله عنهما:" أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى "، أشيءٌ قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو شيءٌ أنزله الله ؟ قال: قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أنزله الله “.
وفي لباب النقول في أسباب النزول لجلال الدين السيوطي:” أخرج الأموي في مغازيه عن عكرمة، قال: لقي رسول الله ﷺ أبا جهل، فقال: إن الله أمرني أن أقول لك:
" أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى "
قال: فنزع ثوبه من يده، فقال: ما تستطيع لي أنت، ولا صاحبك من شئ، لقد علمت أني أمنع أهل بطحاءَ، وأنا العزيز الكريم. فقتله الله يوم بدر وأذله، وعيَّره بكلمته، ونزل فيه:
" ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ "(الدخان: ٤٩) “.
٥- والسر الخامس من أسرار هذه السورة الكريمة سرُّ التقديم والتأخير:
ومن ذلك سر تقديم الخبر على المبتدأ، أو على ما أصله المبتدأ. وتقديم شبه الجملة على ما يسمَّى: عاملها.
أ- أما تقديم الخبر على المبتدأ، أو على ما أصله المبتدأ فنلاحظه في الآيات الآتية:
"إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ "(القيامة: ١٢)
"إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ "(القيامة: ٣٠)
" إِِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ "(القيامة: ١٧)
" ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ "(القيامة: ١٩)
ففي الآية الأولى قُدِّم الخبر"إِلَى رَبِّكَ "على المبتدأ" الْمُسْتَقَرُّ "، والسر في هذا التقديم هو إفادة معنى التخصيص، مع تحسين اللفظ. والمعنى: أن مستقر العباد يوم القيامة إلى ربهم خاصة، لا إلى غيره، فلا مفرَّ لهم منه سبحانه إلا إليه.
قال الزمخشري:”أي: استقرارهم. يعني: أنهم لا يقدرون أن يستقروا إلى غيره، وينصِبوا إليه. أو: إلى حكمه ترجع أمور العباد، لا يحكم فيها غيره؛ كقوله:
" لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ "(غافر: ١٦).
أو: إلى ربك مستقرُّهم. أي: موضع قرارهم، من جنة، أو نار “.
وما قيل في تقديم الخبر على المبتدأ يقال مثله في تقديمه على ما أصله المبتدأ في قوله تعالى:
" إِِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ " " ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ "(القيامة: ١٧- ١٩)
أي: إن على الله تعالى وحده جمع القرآن في صدر محمد صلى الله عليه وسلم، وإثبات قراءته في لسانه، ثم إن عليه وحده سبحانه بيانه. فالله سبحانه تكفل بجمعه، وقرآنه، وبيانه. وبيانه يكون على ألسنة العلماء المتدبرين على مر الدهور والعصور، الغائصين في مكنوناته، المتحيرين في أسرار إعجازه. وهذا يعني: أن بيان القرآن الكريم لم ينفرد به شخص دون آخر، ولم يقتصر على زمن دون زمن.
أما لفظ ﴿ قرآن ﴾هنا فهو مصدر:﴿ قرأ ﴾، جيء به بدلاً من ﴿ قراءة ﴾؛ ليدل على المبالغة في القراءة. هذا أصله، ثم أطلق على الكتاب المنزَّل على محمد صلى الله عليه وسلم، فصار علمًا عليه. ومثله في دلالته على المبالغة:﴿ فرقان ﴾، و﴿ غفران ﴾، و﴿ شكران ﴾، و﴿ كفران ﴾.
ب- وأما تقديم شبه الجملة على ما يسمَّى: عاملها، فنلاحظه في الآيات الآتية:
"إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ "(القيامة: ١٢)
" بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ "(القيامة: ١٤)
" وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ "(القيامة: ٢٢)
" إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ "(القيامة: ٢٣)
" وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ "(القيامة: ٢٤)
"إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ "(القيامة: ٣٠)
ففي هذه الآيات تقدم الظرف، والجارُّ والمجرور على ما يطلق عليه في النحو العربي مصطلح﴿ العامل ﴾. والغرض من هذا التقديم هو الاختصاص، وهو الغرض نفسه من تقديم الخبر على المبتدأ في الآيات، التي تقدَّم ذكرها قبل هذه الآيات. وفي قوله تعالى:
" إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ "(القيامة: ٢٣)
قال الزمخشري:”تنظر إلى ربها خاصَّة، لا تنظر إلى غيره، وهذا معنى تقديم المفعول “.
واستطرد الزمخشري قائلاً:”ألا ترى إلى قوله:
"إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ "(القيامة: ١٢)
"إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ "(القيامة: ٣٠)
" إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ "(الشورى: ٥٣)
َ" إِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ "(آل عمران: ٢٨)
"َ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ " (البقرة: ٢٨)
" عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ "(هود: ٨٨)
كيف دلَّ فيها التقديم على الاختصاص ! “.
ومصطلح﴿ المفعول ﴾يطلق- عند النحاة- ويراد به: شبه الجملة؛ كما يراد به: المفعول به.
وذكر الهاشمي في﴿ جواهر البلاغة ﴾ من فوائد التقديم: ما يفيد زيادة في المعنى، مع تحسين في اللفظ، ثم قال:”وذلك هو الغاية القصوى، وإليه المرجع في فنون البلاغة، والكتاب الكريم هو العمدة في هذا.. انظر إلى قوله تعالى:
" وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ *إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ "(القيامة: ٢٢- ٢٣)
تجد أن تقديم الجارِّ في هذا قد أفاد التخصيص، وأن النظر لا يكون إلا لله، مع جَوْدَة الصياغة، وتناسق السجَع “.
٦- والسر السادس من أسرار هذه السورة الكريمة سرُّ دخول﴿ الواو ﴾على ﴿ لو ﴾ الشرطية، في قوله تعالى: