ولو افترضنا جدلاً أن ( دخل ) يتعدى بـ( على )، وأنه يدل على علو المكان وارتفاعه، فماذا يمكن أن نقول، إذا كان المدخول عليه في كهف تحت الأرض، وطلب منا الدخول عليه ؟ أنقول: دخلت فيه، أو: دخلت معه، أو دخلت به، أو دخلت عليه... ؟ من البدهي أننا سنقول: دخلت عليه. فهل يشير( على ) هنا مع فعل الدخول إلى ارتفاع المكان، وعلوه ؟
ولهذا أقول: ينبغي أن نفرق بين قولنا: أشرفت على القوم، ومررت على القوم، وبين قولنا: دخلت على القوم، وألا نخلط بينها. فالقوم في الأول والثاني مفعول في المعنى، تعدى إليه الفعل بوساطة ( على )، خلافًا للقوم في القول الثالث؛ فإنه اسم مجرور، والمفعول به محذوف تقديره: دخلت المجلس على القوم، ومثله قوله تعالى:
" وَجَاء إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ "( يوسف: ٥٨)
" وَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ "(يوسف: ٦٩)
أي: دخلوا القصر عليه. وليس هذا؛ لأن يوسف عليه السلام في مكان عال شريف. أو لأن الداخل عليه يلقى من المشقة ما يلقاه؛ لأنك تقول: دخلت على المجرم في سجنه.. ودخلت على أخي في مكتبه.. ودخلت على والدي في حجرته.. ونحو ذلك مما ليس فيه علو، أو مشقة.
وأما قوله تعالى:
" وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ "( يوسف: ٣٦)
فالمفعول به هنا هو ( السجن ). و( معه ) حال من الفاعل. والأصل: ودخل السجن معه فتيان. أي: مصاحبين له. وهذا ما أشار إليه الزمخشري بقوله:”مع: يدل على معنى الصحبة واستحداثها. تقول: خرجت مع الأمير. تريد: مصاحبًا له. فيجب أن يكون دخولهما السجن مصاحبين له “.
فتعلق( مع ) هنا بالفعل هو من تعلق المفعول فيه، لا من تعلق المفعول به؛ ولهذا يخطىء من يقول: إن ( دخل ) يتعدَّى بـ( مع )؛ كما يخطىء من يقول: إنه يتعدَّى بـ( على ).
وأما قوله تعالى:
" فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ "(النساء: ٢٣)
فالمفعول في الأصل محذوف تقديره: فإن لم تكونوا دخلتم الستر بهن. ولكن حذف المفعول، وعدِّيَ بالباء؛ لأنه كنِّيَّ بالدخول عن الجماع. وهذا ما أشار إليه أبو حيان بقوله:”الدخول هنا كناية عن الجماع؛ لقولهم: بنى عليها. وضرب عليها الحجاب. والباء للتعدية، والمعنى: اللائي أدخلتموهن الستر.
قاله ابن عباس، وطاوس، وابن دينار “.
فقوله تعالى:" دَخَلْتُم بِهِنَّ "، عدِّي الفعل فيه بالباء؛ لأنه كُنِّيَ به عن الجماع، لا لأن الفعل ( دخل ) يتعدى بالباء، وهذا واضح.
ولو كان الضمير المجرور بـ( على )، و( الباء )، و( مع ) يعود على مفعول ( دخل ) الظاهر، أو المضمر في الآيات السابقة، لجاز لنا أن نقول: إنه تعدى إلى مفعولين: الأول بنفسه، والثاني بحرف الجر. وهذا بعيد جدًّا.
أما قوله تعالى:" فَادْخُلِي فِي عِبَادِي *وَادْخُلِي جَنَّتِي "(الفجر: ٢٩- ٣٠ )
فقال فيه أبو حيان:”تعدى( فادخلي ) أولاً بـ( في ). وثانيًا بغير( في )؛ وذلك أنه إذا كان المدخول فيه غير ظرف حقيقي، تعدت إليه بـ( في ): دخلت في الأمر، ودخلت في غمار الناس، ومنه:" فَادْخُلِي فِي عِبَادِي ". وإذا كان المدخول فيه ظرفًا حقيقيًّا، تعدت إليه في الغالب بغير وساطة: في“ الفعل الثاني:( خرج )
ذكر الدكتور الأنصاري أن ( خرج ) يتعدى بـ( من ) و( إلى ) و( على ) و( اللام ) و( مع ) و( في ).
وذكر من تعديته بـ( من ) قوله تعالى:
" أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ "(البقرة: ٢٤٣)
ومن تعديته بـ( إلى ) ذكر قوله تعالى:
" وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ "(الحجرات: ٥)
ومن تعديته بـ( على ) ذكر قوله تعالى:
" فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهٍِ "(القصص: ٧٩)
ومن تعديته بـ( اللام ) ذكر قوله تعالى:
" قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ "(الأعراف: ٣٢(
ومن تعديته بـ( مع ) ذكر قوله تعالى:
" لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً "(الحشر: ١١)
ومن تعديته بـ( في ) ذكر قوله تعالى:
" لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً " (التوبة: ٤٧)
أما قوله بتعديته بـ( من ) و( إلى ) و( على ) فهو قول صحيح، لا غبار عليه.. وأما قوله بتعديته بـ( اللام ) في قوله تعالى:
" قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ "
ففيه خلط واضح بين الفعل:( خرج ) والفعل:( أخرج ). والأول لازم يتعدى بـ( إلى )، أو بـ( من ).. والثاني يتعدى بنفسه؛ إذ الهمزة فيه للتعدية، وحذف مفعوله؛ لأنه يعود على ( زينة الله ) و( الطيبات من الرزق ).
ولو كان عائدًا على الزينة فقط، لوجب أن يقال:( أخرجها لعباده ). أي: لأجلهم. ولو كان العباد مفعولاً، لقلنا إنه تعدى إليه باللام؛ ولكنه ليس بمفعول، ويسمِّي النحاة هذه الهمزة: همزة النقل، وهي التي تنقل غير المتعدي إلى المتعدي؛ كقولك: قام وأقمته، وذهب وأذهبته. وعلى هذا يكون قوله تعالى:( لِعِبَادِهِ ) متعلقًا بالفعل:( أخرج )؛ لأنه مفعول لأجله. والمعنى: أخرج لأجل عباده.


الصفحة التالية
Icon