"وَيَسْتَنْبِئُونَكَ : أَحَقٌّ هُوَ " ؟ " قُلْ: إِي، وَرَبِّي " !" إِنَّهُ لَحَقٌّ، وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ " !
فهم مزلزلون من الداخل تجاه هذا اليوم- أعني: يوم القيامة وما يصحبه من العذاب- يريدون أن يستوثقوا، وليس بهم ذرَّة من يقين، فيأتي الجواب بالإيجاب، حاسمًا، مؤكَّدًا بهذا القسم:
" قُلْ : إِي، وَرَبِّي "!
أيْ: نعم ! وربي، الذي أعرف قيمة ربوبيته، فلا أقسم به حانثًا، ولا أقسم به إلا في جد وفي يقين:
" إِنَّهُ لَحَقٌّ، وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ "!
أما النوع الأول- وهو موضوع حديثنا- فهو من الأمور اليقينية الثابتة، التي لا تحتاج إلى أن تؤكد بقسم؛ كما في قوله تعالى:
" إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ "*" فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ "*" لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ "*" تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ "
فكون القرآن كريمًا، في كتاب مَصون، لا تمسُّه إلا الملائكة المطهَّرون، وأنه تنزيل من رب العالمين، حقيقةٌ ثابتةٌ، لا تحتاج إلى قسم يؤكِّدها؛ لأنها أوضح من أن تؤكَّد بقسم.
وقد كان المشركون يزعمون أن القرآن، الذي أتى به محمد ﷺ هو قول كاهن، وقول مجنون، وأنه مفترى على الله سبحانه، من أساطير الأولين، وأنه متقوَّل على الله جل وعلا، تنزَّلت به الشياطين عليه، إلى آخر ذلك من هذه الأقاويل الباطلة، فجاء الجواب من الله تعالى حاسمًا بأنه ليس كما يزعمون ويدَّعون.
وقد مهَّد سبحانه لهذا الجواب ملوِّحًا بالقسم بمواقع النجوم، التي أخبر عن عظمة القسم بها، فقال:
" فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ"*" وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ "
وكأنه سبحانه يقول: لست بحاجة إلى القسم بمواقع النجوم- على عظمتها- أن هذا القرآن كريمٌ؛ لأن كونه كريمًا في ذاته، وفي مصدره، من الحقائق الثابتة، التي لا يتطرق إليها الشك أبدًا، وبالتالي فهو لا يحتاج إلى قسم يؤكده؛ لأنه أوضح وأجلى من أن يحتاج إلى ذلك.
وكذا القول في قوله تعالى:
"فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ *وَمَا لَا تُبْصِرُونَ *إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ *وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ *وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ *تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ "(الحاقة: ٣٨- ٤٣)
وتعقيبًا على هذه الآيات قال سيد قطب رحمه الله:"إن الأمر لا يحتاج إلى قسم، وهو واضح هذا الوضوح، ثابت هذا الثبوت، واقع هذا الوقوع.. لا يحتاج إلى قسم أنه حق، صادر عن الحق.. وليس شعر شاعر، ولا كهانة كاهن، ولا افتراه مفتر ! لا، فما هو بحاجة إلى توكيد بيمين ".
فالمقام- إذًا- لا يحتاج إلى قسم، وتوكيد بيمين، فضلاً عن أن المتكلم هو الله جل وعلا؛ ولهذا لمَّا سمع أعرابيٌ قول الله تعالى:
" وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ *فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ "(الذاريات: ٢٢- ٢٣)
صاح قائلاً:"يا سبحان الله ! من ذا الذي أغضب الجليل حتى حلف ؟ لم يصدقوه بقوله، حتى ألجئوه إلى اليمين ".
فتأمل قول هذا الأعرابي، الذي أدرك بفطرته السليمة أن الأمر لا يحتاج إلى القسم على صحة وقوعه؛ لأنه أظهر وأوضح من أن يُقسَم عليه، مع أنه من الأمور، التي هي موضع شك من المخاطبين !
وبهذا يظهر لنا الفرق بين القسم المثبت، والقسم المسبوق بـ"لَا "النافية. كما يظهر لنا أن القول بزيادة " لَا "هو قول بعيد جدًّا؛ بل هو في بعده عن الصواب أبعد من النجوم في مواقعها من الأرض؛ إذ يستحيل أن يؤكَّد الشيء بنفيه، ولا يمكن لأعجمي، فضلاً عن عربي، أن يتصور أن " لَا أُقْسِمُ "معناه:" أُقْسِمُ "! وكيف ينسب ذلك إلى القرآن الكريم، وهو كتاب بيان، وهدى للناس !
وأما ما احتج به بعضهم على أن " لَا أُقْسِمُ "معناه:" أُقْسِمُ " بقوله تعالى:
" وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ "
فيجاب عنه بأن قوله تعالى:" فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ "
لما كان يحتمل أن يفهم منه المخاطب أن الله سبحانه لم يقسم بمواقع النجوم لتفاهتها وحقارتها، أو غير ذلك؛ لأن المتعارف عليه أن يكون المقسَم به شيئًا عظيمًا، جاء قوله تعالى:
" وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ "
معترضًا بين التلويح بالقسم والمقسم عليه، صَوْنًا للمعنى من هذا الاحتمال.
ومن الواضح أن المخاطبين بهذه الآيات حينئذ، لم يكونوا يعلمون عن مواقع النجوم إلا القليل القليل، الذي يدركونه بعيونهم المجردة. فأما نحن اليوم فنعلم من عظمة هذا القسم المتعلقة بالمقسم به، نصيبًا أكبر بكثير مما كانوا يعلمون، وإن كنا نحن أيضًا لا نعلم إلا القليل عن عظمة مواقع النجوم، وغيرها من الأمور، التي نفى الله تعالى حاجته إلى القسم بها. ومن ثمَّ قال تعالى لهم ولنا وللناس جميعًا:
" وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ- لَّوْ تَعْلَمُونَ- عَظِيمٌ "، ولم يقل:" وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ- كَمَا تَعْلَمُونَ- عَظِيمٌ "
لأنه لو قيل ذلك، لأفاد علمهم بعظمة هذا القسم. وكذلك لو قال:


الصفحة التالية
Icon