خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وقراءة العامة:" أَلَمْ نَشْرَحْ "، بالسكون. وقرأ أبو جعفر المنصور:" أَلَمْ نَشْرَحَ "، بفتح الحاء، وخرَّجه ابن عطيَّة وجماعة على أن الأصل: ألم نشرحَنْ، بنون التوكيد الخفيفة، فأبدل من النون ألفا، ثم حذفها تخفيفًا. وقال غير واحد: لعل أبا جعفر بيَّن الحاء، وأشبعها في مخرجها، فظن السامع أنه فتحها.
وفي( البحر المحيط ) لأبي حيان:" أن لهذه القراءة تخريجًا أحسن مما ذكِر، وهو أن الفتح على لغة بعض العرب من النصب بـ" لَمْ "، فقد حكَى اللَّحْيانيُّ في نوادره: أن منهم من ينصب بها، ويجزم بـ" لَنْ "، عكس المعروف عند الناس. وعلى ذلك قول عائشة بنت الأعجم تمدح المختار بن أبي عبيد:
في كل ما هَمَّ أمضَى رأيَه قدما **ولم يشاورَ في الأمر الذي فعلا
وخرَّجها بعضهم على أن الفتح لمجاورة ما بعدها؛ كالكسر في قراءة:
" الْحَمْدِ للّهِ "(الفاتحة: ٢)
بالجر، وهو لا يتأتى في بيت عائشة السابق".
ثالثًا- وفي المراد بهذا الشرح- على ما ذكر- أقوال:
أحدهما: أن المراد به شقُّ صدره الشريف عليه الصلاة والسلام، روي أن جبريل عليه السلام أتاه، وشق صدره، وأخرج قلبه وغسله وأنقاه من المعاصي، ثم ملأه علمًا وإيمانًا، ووضعه في صدره. وروي عن ابن عباس- رضي الله عنهما- أنه فسَّره به، وهو ظاهر صنيع التِّرْمِذِيِّ؛ إذ أخرج حديث شقِّ الصدر الشريف في تفسير هذه السورة.. وهذا القول ضعيف عند المحققين.
وثانيها: أن المراد به شرح صدره ﷺ للإسلام، وهو المرويُّ عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وثالثها: أنه كناية عن الإِنعام عليه بكل ما تطمح إليه نفسه الزكية من الكمالات، وإعلامه برضى الله عنه، وبشارته بما سيحصل للدّين، الذّي جاء به من النصر.
ورابعها: أن المراد به تنوير صدره ﷺ بالحكمة، وتوسيعه بالمعرفة، لتلقي ما يوحى إليه. قال الله تعالى:
" أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ "(الزمر: ٢٢)
وروي أنهم قالوا: يا رسول الله أينشرح الصدر ؟ قال:"نعم! "قالوا: وما علامة ذلك ؟ قال:" التجافي عن الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والإعداد للموت قبل نزوله ".
وتحقيق القول فيه أن صدق الإيمان بالله ووعده ووعيده يوجب للإنسان الزهد في الدنيا، والرغبة في الآخرة، والاستعداد للموت.
وخامسها: منهم من فسر الشرح بانفتاح صدره عليه الصلاة والسلام؛ حتى إنه كان يتسع لجميع المهمات، لا يقلق، ولا يضجر، ولا يتغير؛ بل هو في حالتيْ البؤس والفرح منشرح الصدر، مشتغل بأداء ما كلف به.
والشرح في اللغة التوسعة، ومعناه: الإراحة من الهموم والغموم. والعرب تسمِّي الغمَّ والهمَّ: ضيقَ صدرٍ؛ كقوله تعالى:
" وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ "(الحجر: ٩٧)
والأصل في الشرح: فصل أجزاء اللحم بعضِها عن بعض، ومنه: الشريحة من اللحم، ثم شاع استعماله في الكشف والبسط، وإيضاح الغامض والخافي من المعاني. ومنه قولهم: شرَح المُشْكِلَ، أو الغامِضَ من الأمر. أي: فسَّره، وبسطَه، وأظهر ما خفِي من معانيه.. وكذلك شاع استعماله في رضى النفس وسرورها بعد ضيق ألمَّ بها، فقيل: شرح الله صدره بكذا. أي: سرَّه به. ومنه: شرح الله صدره للإسلام، فانشرح. أي: انبسط في رضًا وارتياح للنور الإلهي، والسكينة الروحية. قال تعالى:
"فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء "(الأنعام: ١٢٥)
رابعًا- والاستفهام في قوله تعالى:" أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ " ؟ معناه: إثبات الشرح وإيجابه؛ لأن همزة الاستفهام إذا دخلت على النفي، ردته إلى الإيجاب. وإلى هذا أشار مكي في إعرابه للآية الكريمة بقوله في(مشكل إعراب القرآن ):" الألف نقلت الكلام من النفي، فردته إيجابًا ".
والغرض من هذا الاستفهام: التذكير والتنبيه، والمعنى: شرحنا لك صدرك. وإلى هذا أشارالزمخشري بقوله عند تفسير الآية:" استفهم عن انتفاء الشرح على وجه الإنكار، فأفاد إثبات الشرح وإيجابه؛ فكأنه قيل: شرحنا لك صدرك، فنبَّه على ذلك، وذكَّر به ".
وجمهور النحاة والمفسرين على القول بأن هذا الاستفهام هو استفهام تقرير، مثله في قوله تعالى:
" أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ "(الأعراف: ١٧٢)، وقوله تعالى:
" أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ "(الزمر: ٣٦)
فيخلطون بين استفهام التذكير والتنبيه، وغيره، وبين استفهام التقرير. ولتوضيح الفرق بينهما أقول: إذا قيل: أليس زيد مسافرًا ؟ احتمل ذلك معنيين:
أحدهما: أن السائل لم يعلم شيئًا عن سفر زيد، فيجاب حينئذ بـ( لا ) في النفي. وبـ( نعم) في الإيجاب.
والثاني: أن السائل يعلم بسفر زيد؛ ولكنه يسأل عنه لغرض آخر؛ كالتذكير، أو التنبيه، أو التعجب، أو الإنكار، أو نحو ذلك من المعاني، التي يخرج إليها الاستفهام، فيجاب حينئذ بـ( بلى ). وعلى التنبيه والتذكير يحمل قوله تعالى: