كان بمثابة الإعلان في مكة على لسان النبي عليه الصلاة والسلام بعجز العرب قاطبة، والأمم عامة، إنسهم وجنهم، عن الإتيان بمثل هذا القرآن العظيم عجزًا مطلقًا، ولو تظاهروا على ذلك. وهذا ما دل عليه فعل الإتيان المنفي بـ" لَا " نفيًا شاملاً على سبيل القطع والجزم في قوله تعالى:
" لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ "
فأفاد النفيُ بها أن الإتيان بمثل هذا القرآن، لا يمكن أبدًا، وأنه فوق طاقة الخلق من الإنس والجن مجتمعين.
ثم ذكرت أن هذا المثل للقرآن ليس مثلاً مفترضًا- كما هو الشائع- وإنما هو مثل موجود، وبينت بالأدلة والبراهين على وجود هذا المثل بما لا يدع مجالاً لأحد أن يشك في وجوده، ويكفي في بيان ذلك وإثباته أن الله تعالى أقسم على أنه مثل موجود:
" قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ "
وذكرت أيضًا أنه ليس في هذه الآية الكريمة ما يشير لا من قريب، ولا من بعيد إلى أن الله تعالى طلب من المكذبين خاصة، والناس عامة أن يأتوا بمثل هذا القرآن، خلافًا للمشهور؛ إذ كيف يعلن الله تعالى عجز الإنس والجن على لسان نبيه ﷺ عن الإتيان بهذا المثل للقرآن، ثم يطلب من الناس أن يأتوا بهذا المثل ؟
نعم لقد تحداهم في المدينة أن يأتوا:" بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ "، حين كانوا في ريب منه، وأن الجن- على حدِّ زعمهم- كانت تتنزل به على محمد ﷺ، فقال تعالى:
" وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ "(البقرة: ٢٣)
ثم أسجل عليهم إسجالاً عامًا إلى يوم القيامة، أنهم لم يفعلوا، ولن يفعلوا ذلك أبدًا؛ ولهذا انتقل سبحانه وتعالى إلى إرشادهم، فقال:
" فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ "(البقرة: ٢٤)
وقد سبق ذلك كله قول الله تعالى:
" يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ "(البقرة: ٢١-٢٢)
والخطاب هنا عام للناس كل الناس، في كل زمان وكل مكان، إلى أن يرث الله تعالى الأرض ومن عليها. وليس فيه ما يشير إلى أن الله تعالى تحدَّى العرب أن يأتوا بسورة من مثل سور القرآن في بلاغته وفصاحته ونظمه، وإن كانوا أصحاب بلاغة وفصاحة، ففي ذلك تحميل للفظ ما لا يحتمله.
وما في اللفظ يدل على خلاف ذلك..
ففي اللفظ قوله تعالى:" يَا أَيُّهَا النَّاسُ "، وهو خطاب يراد به العموم، والعرب بعض من هذا العموم.
وفي اللفظ قوله تعالى:" وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا "، والريب هو الشك بتهمة، وهو معلق بإن الشرطية، التي تدل على إمكان حدوث ما بعدها، وعدم إمكان حدوثه. وحدوثه، إن كان مع قلته، أخطر تهمة توجه إلى القرآن الكريم، فهو أخطر من الافتراء، ومن التقوُّل، ومن غيرهما.
ولهذا نجد آيات القرآن الكريم تتكرر في أكثر من موضع نافية على سبيل الاستغراق والشمول لكل جنس من أجناس الريب في القرآن، وتؤكد على أنه تنزيل من الله جل وعلا؛ لأنه المعجزة الكبرى، التي أيَّد الله تعالى بها نبيه صلى الله عليه وسلم، ومن هذه الآيات قوله تعالى:
" ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ "(البقرة: ٢)
" تَنزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ "(السجدة: ٢)
" لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ "(فصلت: ٤٢)
وفي اللفظ قوله تعالى:" فَأْتُوا بِسُورَةٍ "، والإتيان بالشيء يكون بالمجيء به، أو جلبه من مكان بعيد إلى مكان قريب بسهولة ويسر، دون جهد يبذل. ويكون ذلك إما بالاسترفاد من الغير كما في قوله تعالى هنا:
" فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ "
أو يكون ذلك بالاختراع من الجالب كما في قوله تعالى:
" فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ "(البقرة: ٢٥٨)
وفي اللفظ قوله تعالى:" مِنْ "، وهي لابتداء الغاية، مثلها في قوله تعالى:
" فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعُهُ "(القصص: ٤٩)


الصفحة التالية
Icon