فتنبيه للنبي ﷺ وغيره على قدرته تعالى، على تصريف المكلف تحت مشيئته وحكمه وحكمته، وأنه لا دافع لما أراد، ولا مانع لما اختار “.
ومما يبعد أن يكون الاستفهام في هذه الآيات، ونحوها للتقرير أنه يجوز حمله في كل منها على حقيقته من طلب الفهم، وذلك لا يجوز في استفهام التقرير.
خامسًا-وقال تعالى:" أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ "، بصيغة الجمع، ولم يقل:﴿ ألم أشرح لك صدرك ﴾، بصيغة المفرد. والجواب- كما قال الرازي-:”إما أن يحمل على نون التعظيم، فيكون المعنى: أن عظمة المنعم تدل على عظمة النعمة، فدل ذلك على أن ذلك الشرح نعمة، لا تصل العقول إلى كنه جلالتها.
وإما أن يحمل على نون الجميع، فيكون المعنى: كأنه تعالى يقول: لم أشرحه وحدي؛ بل أعملت فيه ملائكتي، فكنت ترى الملائكة حواليك، وبين يديك حتى يقوى قلبك، فأديت الرسالة، وأنت قوي القلب، ولحقتهم هيبة، فلم يجيبوا لك جوابًا. فلو كنت ضيق القلب، لضحكوا منك.. فسبحان من جعل قوة قلبك جبنًا فيهم، وانشراح صدرك ضيقًا فيهم “.
وقال تعالى:" أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ "، وكان يمكن أن يقال:﴿ ألم نشرح صدرك ﴾، بدون" لَكَ "؛ ولكن جيء به زيادة بين فعل الشرح، ومفعوله لفائدتين:
الفائدة الأولى: هي سلوك طريقة الإبهام، ثم الإيضاح للتشويق؛ فإنه سبحانه، لما ذكر فعل:" نَشْرَحْ "، عَلم السامع أن ثَمَّ مشروحًا. فلما قال:" لَكَ "، قويَ الإِبهام، فازداد التشويق. فلما قال:" صَدْرَكَ "، أوضح ما كان قد عُلِم في ذهن السامع مبهمًا، فتمكن في ذهنه كمال تمكن.. وكذلك قوله تعالى:" وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ "،" وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ "
وهذا من الإطناب البليغ. قال علماء البيان:”إذا أردت أن تبهم، ثم توضح، فإنك تطنب، وفائدته: إما رؤية المعنى في صورتين مختلفتين: الإبهام والإيضاح. أو لتمكن المعنى في النفس تمكنًا زائدًا، لوقوعه بعد الطلب؛ فإنه أعز من المنساق بلا تعب. أو لتكمل لذة العلم به؛ فإن الشيء إذا علم من وجهٍ مَّا، تشوَّقت النفس للعلم به من باقي وجوهه وتألمت، فإذا حصل العلم من بقية الوجوه، كانت لذته أشد من علمه من جميع وجوهه دفعة واحدة “.
ومن الأمثلة على ذلك قول موسى عليه السلام:" رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي "(طه: ٢٥)
فإن" اشْرَحْ "يفيد طلب شرح شيء مَّا، و" صَدْرِي "يفيد تفسيره وبيانه. وكذلك قوله:
" وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي " (طه: ٢٦)
والمقام يقتضي التأكيد للإرسال المؤذن بتلقى الشدائد. وكذلك قوله تعالى:
" أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ "
فإن المقام يقتضي التأكيد؛ لأنه مقام امتنان وتفخيم.
والفائدة الثانية: أن في زيادة " لَكَ "تنبيه على أن منافع الرسالة عائدة إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ كأنه قيل: إنما شرحنا صدرك لأجلك، لا لأجلنا. وفي ذلك تكريم للنبي ﷺ بأن الله تعالى قد فعل ذلك لأجله.
ومثله في ذلك قول موسى عليه السلام:" رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي "(طه: ٢٥)
فكأن في ذلك اعتراف من موسى- عليه السلام- بأن منفعة الشرح عائدة إليه؛ لأن الله تعالى لا ينتفع بإرسال الرسل، ولا يستعين بشرح صدورهم، على خلاف ملوك الدنيا.
وقال تعالى:" أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ "، ولم يقل:﴿ ألم نشرح لك قلبك ﴾، مع أنه المراد هنا، ومثل ذلك قوله تعالى:" يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ "(الناس: ٥)
وكان الظاهر يقتضي أن يقال:﴿ يوسوس في قلوب الناس ﴾؛ ولكن عدل عنه إلى الصدر؛ لأن الصدر- كما قال ابن قيِّم الجوزية- هو ساحة القلب وبيته، فمنه تدخل الواردات إليه، فتجتمع في الصدر، ثم تلج في القلب، فهو بمنزلة الدهليز له. ومن القلب تخرج الأوامر والإرادات إلى الصدر، ثم تتفرق على الجنود. ومن فهم هذا، فهم قوله تعالى:" وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ "(آل عمران: ١٥٤)
فالشيطان يدخل إلى ساحة القلب وبيته، فيلقي ما يريد إلقاءه في القلب، فهو موسوس في الصدر.
ومذهب الجمهور أن الصدر هو محل القرآن والعلم. ودليلهم على ذلك قوله تعالى:" بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ "(العنكبوت: ٤٩)
وقال محمد بن علي الترمذي:”القلب محل العقل والمعرفة، وهو الذي يقصده الشيطان. فالشيطان يجيء إلى الصدر، الذي هو حصن القلب، فإذا وجد مسلكًا نزل فيه هو وجنده، وبث فيه الهموم والغموم، فيضيق القلب حينئذ، ولا يجد للطاعة لذة، ولا للإسلام حلاوة “.
سادسًا-وقوله تعالى:" وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ "(٢- ٣)قراءة العامة، وقرأ أنس:﴿ حططنا ﴾و﴿ حللنا ﴾بدلاً من قوله:" وَضَعْنَا ". وقرأ ابن مسعود:﴿ عنك وقرك ﴾، بدلاً من قوله:" وِزْرَكَ ".


الصفحة التالية
Icon