وعلى هذا يكون قوله تعالى:" إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا "وعدًا آخر مستأنفًا، غير الوعد الأول. قال الألوسي:”واحتمال الاستئناف هو الراجح، لما علم من فضل التأسيس على التأكيد. كيف، وكلام الله تعالى محمول على أبلغ الاحتمالين، وأوفاهما ! والمقام- كما تقدم- مقام التسلية والتنفيس.
وكان الظاهر على ما سمعت من المراد باليسر تعريفه؛ إلا أنه أوثر التنكير للتفخيم. وقد يقال: إن فائدته أظهر في التأسيس؛ لأن النكرة المعادة، ظاهرها التغاير، والإشعار بالفرق بين العسر واليسر“.
والفرق بين التأسيس، والتكرير: أن التكرير يكون بإيراد المعنى مُرَدَّدًا بلفظ واحد. ومنه ما يأتي لفائدة، ومنه ما يأتي لغير فائدة. فأما الذي يأتي لفائدة فإنه جزء من الإطناب، والغرض منه التأكيد. والتأكيد هو تقرير إرادة معنى الأول، وعدم التجوُّز.. أما التأسيس فيفيد معنى آخر، لم يكن حاصلاً قبل، وهو خير من التأكيد؛ لأن حمل الكلام على الإفادة خير من حمله على الإعادة.
وظاهر المعية في قوله تعالى:" مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا "يقتضي أن يكون اليسر مصاحبًا للعسر ومقارنًا له؛ لأن" مَعَ " ظرف يدل على المصاحبة. ولما كان اليسر لا يجتمع مع العسر؛ لأنهما ضدان، أجيب عن ذلك بأن " مَعَ "- هنا- مستعملة في غير معناها الحقيقي، وأنها مستعارة لقرب حصول اليسر عقب حلول العسر، أو ظهور بوادره. وبذلك يندفع التعارض بين هذه الآية، وبين قوله تعالى:
" سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً "(الطلاق: ٧)
ثم إنه يبعد إرادة المعية الحقيقية ما أخرجه البزار وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط والحاكم والبيهقي في الشعب عن أنس بن مالك قال: كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم جالسًا، وحياله حجر، فقال عليه الصلاة والسلام:” لو جاء العسر فدخل هذا الحجر، لجاء اليسر حتى يدخل عليه، فيخرجه“، فأنزل الله تعالى:" فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا.. إلخ ". ولفظ الطبراني: وتلا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم:" فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا.. ".
تاسعًا- ثم يجيء التوجيه الكريم من الله جل وعلا لمواقع التيسير، وأسباب الانشراح، ومستودع الري والزاد في الطريق الشاق الطويل، فيقول سبحانه وتعالى:
"فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ *وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ "(الشرح: ٧- ٨)
أي: إذا فرغت من عبادة- كتبليغ الوحي- فاتعب في عبادة أخرى، شكرًا لما عددنا عليك من النعم السالفة، ووعدناك من الآلاء الآنفة؛ وكأنه عز وجل، لمَّا عدَّد على نبيه وحبيبه محمد ﷺ ما عدَّد، ووعده بما وعد، وحقق له ما وعد، بعثه على الشكر والاجتهاد في العبادة، وأن لا يخلي وقتًا من أوقاته منها؛ ولهذا كان عليه الصلاة والسلام، إذا ما فرغ من عبادة، أتبعها بأخرى.
والفراغ- في اللغة- خلاف الشُّغل. يقال: فرغ من عمله فراغًا، فهو فارغ. قال تعالى:
" سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ "(الرحمن: ٣١)
وفسِّر بقولهم: سنقصد لكم أيها الثقلان. وقوله تعالى:
"وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً "(القصص: ١٠)
قيل في تفسيره: خاليًا؛ وكأنما فرغ من لبِّها، لِمَا تداخلها من الخوف. وقيل: فارغًا من ذكره. أي: أنسيناها ذكره، حتى سكنت، واحتملت أن تلقيه في اليم. وقيل: خاليًا إلا من ذكره؛ لأنه قال:
" إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا "(القصص: ١٠)
وظاهر قوله تعالى:" فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ "يفيد أنه عليه الصلاة والسلام كان في أعمال، لم ينته منها؛ ولكن السياق لم يذكر لنا شيئًا عن تلك الأعمال، يكون متعلَّقًا للفعل" فَرَغْتَ ". وعدم ذكره يقتضي أنه لازم أعمال، يعلمها الرسول صلى الله عليه وسلم؛ كما أن مساق السورة في تيسير مصاعب الدعوة، وتذليل ما يحف بها من مكاره.
وعليه يكون المعنى: إذا أتممت عملاً من مهام الأعمال، فأقبل على عمل آخر؛ بحيث يعمر أوقاته كلها بالأعمال العظيمة. ومن هنا قال رسول الله ﷺ عند وجوعه من إحدى غزواته:” رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر “.
وبهذا يتبين أن المقصود بالأمر هو قوله تعالى:" فَانْصَبْ ". أما قوله:" فَإِذَا فَرَغْتَ " فتمهيد وإفادة لإِيلاءِ العمل بعمل آخر في تقرير الدين ونفع الأمة. وهذا من صيغ الدلالة على تعاقب الأعمال، ومثله قول القائل: ما تأتيني من فلان صلة إلا أعقبَتْها أخرى؛ ولهذا قدِّم قوله:" فَرَغْتَ " على قوله:" فَانْصَبْ ".
وجيء بالفاء الرابطة؛ لتدل على أن ما بعدها واجب الوقوع، عقب وقوع الشرط مباشرة. وعليه يكون قوله تعالى:" فَانْصَبْ " أمرًا بإحداث الفعل فورًا، بعد حدوث الشرط من دون أي تأخير.
ثم أمره تعالى بأن يرغب إلى ربه وحده، فقال سبحانه:
"وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ "
أي: اصرف وجوه الرغبات إلى ربك وحده، لا إلى سواه، ولا تسأل إلا فضله متوكلاً عليه.
وقوله تعالى:" فَارْغَبْ" هو من الرَّغْبَة. والرَّغبة هي السَّعة في الإرادة. قال تعالى عن إبراهيم عليه السلام:
"وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً "(الأنبياء: ٩٠)