وقال ابن قيِّم الجوزية:” إن النور جاء في أسمائه تعالى، وهذا الاسم مما تلقته الأمة بالقبول، وأثبتوه في أسمائه الحسنى، ولم ينكره أحد من السلف، ولا أحد من أئمة أهل السنة. ومحالٌ أن يسمِّي نفسه نورًا، وليس له نور، ولا صفة النور ثابتة له؛ كما أن من المستحيل أن يكون عليمًا قديرًا سميعًا بصيرًا، ولا علم له ولا قدرة؛ بل صحةُ هذه الأسماء عليه مستلزمةٌ لثبوت معانيها له، وانتفاءُ حقائقها عنه مستلزمةٌ لنفيها عنه، والثاني باطل قطعًا فتعين الأول “.
فكونُ النور اسمًا من أسمائه تعالى، أو وَصْفًا من أوْصَافه، لا يمنع أن يكون منوِّرًا لغيره، ومُدَبِّرًا لأمره، وهاديًا له؛ لأن من معاني كونه- سبحانه- نورًا أن يكون مُنَوِّرَ السمواتِ والأرضِ، ومُدَبِّرَ الأمر فيهما، وهاديَ أهلهما بنوره، الذي منه قِوامُهُمَا، ومنه نِظامُهُمَا؛ فهو الذي يهَبُهُما جوهرَ وجودهما، ويودِعُهُما ناموسَهُما، ويقيم كل موجود في هذا الوجود في مكانه الصحيح، ويوجِّهه الوِجْهةَ، التي يأتلف فيها مع الوجود، ويتناغم مع الموجودات؛ فكأن كل ذرة من ذرات هذا الوجود تعمل في نور، فلا تضلُّ طريقَها أبدًا.
وقد كان من عادة الصحابة- رضوان الله عليهم- أن يذكروا في تفسيرهم بعض صفات المفسَّر من الأسماء، أو بعض أنواعه، ولا ينافي ذلك ثبوت بقية صفات المسمَّى. وإلى هذا أشار الشيخ ابن تيمية بقوله:” ثم قول من قال من السلف: هادي أهل السماوات والأرض، لا يمنع أن يكون في نفسه نورًا؛ فإن من عادة السلف في تفسيرهم أن يذكروا بعض صفات المفَسَّر من الأسماء، أو بعض أنواعه. ولا ينافي ذلك ثبوت بقية صفات المسمَّى؛ بل قد يكونان متلازمين “.
ويدل على ذلك ما أخرجه الطبراني عن سعيد بن جبير- رضي الله عنه- من قوله:” كان ابن عباس يقول: اللهم! إني أسألك بنور وجهك، الذي أشرقت له السموات والأرض، أن تجعلني في حِرْزِك وحفظك وجوارك وتحت كنفك “.
وأخرج الطبراني أيضًا عن عبد الله بن مسعود قوله في تفسير الآية:” إن ربكم ليس عنده ليل، ولا نهار، نورُ السماوات والأرض من نور وجهه “.
وقد أخبر الله جل جلاله أن الأرض تشرق بنور ربها يوم القيامة، إذا جاء لفصل القضاء بين عباده، فقال سبحانه:" وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ "(الزمر: ٦٩)
وفي الدعاء المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو عائد من الطائف نافض كفيه من الناس:” أعوذ بنور وجهك، الذي أشرقت به الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن ينزل بي سخطك، أو يحل علي غضبك“
وأخرج البخاري، ومسلم، والنسائي، وابن ماجه، والبيهقي في ( الأسماء والصفات ) عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا تهجد في الليل يدعو:” اللهم لك الحمد، أنت رب السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد، أنت نور السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد، أنت قيُّوم السموات والأرض ومن فيهن “.
قال ابن قيِّم الجوزية:” إن الحديث تضمن ثلاثة أمور، شاملة عامة للسموات والأرض؛ وهي: ربوبيتهما، وقيوميتهما، ونورهما. فكونه سبحانه ربًا لهما، وقيومًا لهما، ونورًا لهما أوصاف له، فآثار ربوبيته، وقيوميته، ونوره، قائمة بهما.
وصفة الربوبية مقتضاها هو المخلوق المنفصل. وهذا كما أن صفة الرحمة والقدرة والإرادة والرضى والغضب قائمة به سبحانه، والرحمة الموجودة في العالم، والإحسان، والخير، والنعمة، والعقوبة، آثار تلك الصفات، وهي منفصلة عنه. وهكذا علمه القائم به هو صفته. وأما علوم عباده فمن آثار علمه، وقدرتهم من آثار قدرته “.
فإذا ثبت بهذه النصوص كلها أن الله سبحانه هو نور السموات والأرض ومن فيهن، وأن كل شيء في هذا الوجود إنما يشرق بنور وجه ربه جل وعلا، ولنوره، وأن كل نور إنما هو من نوره سبحانه، فكيف لا يكون هو سبحانه في نفسه نورًا؛ كما كان سبحانه وتعالى ربًّا، وقيُّومًا، وهاديًا ؟!
وأما من قال: إن الله سبحانه، لو كان نورًا في نفسه، لما جازت إضافته إليه في قوله:" مَثَلُ نُورِهِ "، وكذا في قوله:" يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ "؛ لأن الشيء لا يضاف إلى نفسه، بمعنى: أن المضاف لا يكون عَيْنَ المضاف إليه، فلا يقال: نورُ النورِ، ولا حقُّ الحقِّ؛ وإنما يقال: نورُ اللهِ، وحقُّ اليقين، فالجواب عنه: أن النور يضاف، أو يسند إلى الله سبحانه على ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: أن يسند إسناد الخبر إلى المبتدأ؛ كما في قولنا: اللهُ نورٌ. وبهذا وصفه النبي عليه الصلاة والسلام. ففي الحديث الثابت عن أبي ذرٍّ- رضي الله عنه- أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم: هل رأيت ربك؟ قال:” نورٌ! أنَّى أراه ؟ “.. وفي الرواية الأخرى:” هل رأيت ربك ؟ فقال: رأيت نورًا “.