وأما الدنيوي فهو ضربان: أحدهما: معقول بعين البصيرة؛ وهو ما انتشر من الأمور الإلهية كنور العقل، ونور الإيمان، ونور القرآن، ومنه قوله تعالى:" قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ "(المائدة: ١٥)
والثاني: محسوس بعين البصر؛ وهو ما انتشر من الأجسام النيرة كالشمس والقمر والنجوم، ومنه قوله جل وعلا:" هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُوراً "(يونس: ٥)
فثبت مما تقدم أن الأنوار ثلاثة:
أولها: النور الذي هو وصف من أوصاف الله جلا وعلا، ومنه اشتق له اسم النور، الذي هو أحد أسمائه الحسنى.
وثانيها: النور الذي هو حجابه جل جلاله، لو كشفه، لأحرقت سُبُحاتُ وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه.. تأمل ذلك في قوله تعالى:
" فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسَى صَعِقاً "(الأعراف: ١٤٣)
وثالثها: النور الذي هو خلق من خلق الله سبحانه، وهو نور الوجود كله، وهو المراد بقوله جل وعلا:" اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ".
وإلى هذه الأنوار الثلاثة أشار الشيخ ابن تيمية بقوله:” النصُّ في كتاب الله، وسنةُ رسوله قد سمَّى الله نورَ السماوات والأرض، وقد أخبر النصُّ أن الله نورٌ، وأخبر أيضًا أنه يحتجب بالنور.. فهذه ثلاثة أنوار في النص “.
وقد علم مما تقدم أن كون الله سبحانه نور السموات والأرض يعني: أنه سبحانه في نفسه نور؛ لأنه سبحانه، لو لم يكن في نفسه نورًا، فكيف يكون منوِّرًا لغيره ؟ وليس غريبًا بعد هذا أن نجد كثيرًا من الناس يعترضون على تسمية الله تعالى نفسه نورًا، وتسمية رسوله ﷺ وأصحابه الكرام له بالنور؛ وذلك لأنهم لم يميزوا بين نور، ونور.
قال عبد الكريم الخطيب في كتابه تفسير القرآن للقرآن:” ونحن إذا نظرنا اليوم بعين العلم، رأينا الوجود كله نورًا. فالأجسام جميعُها مكونة من ذرَّاتٍ. والذرَّاتُ هي- كما عرف العلم- نورٌ من نورٍ. فكل ذرة مجموعة من الشموس، تدور في فلك النواة، التي للذرة. فهذه الأجسام المعتمة، وغير المعتمة في هذا الكون الفسيح هي نورٌ مُجَسَّد مُتكاثِفٌ، إذا انْحَلَّ إلى ذرَّاتٍ، كان كُتلاً من النور الوهَّاج.
فالعالم الماديُّ- كما يبدو في مرآة العلم الحديث- هو شُموسٌ، تستمد نورها من نور الله، الذي أضاء الوجود كله. ومع ذلك فهو بالإضافة إلى نور الله جل جلاله ظلام، لا تتجلَّى حقيقته إلا على ضوء نور الله سبحانه؛ كما تتجلَّى حقائق الأشياء، التي تقع في محيط المشكاة، وما يشعُّ المصباح الذي فيها من أضواء “.
وأضاف قائلاً:” ولا بد من الإشارة إلى أن التعبير عن قيوميَّة الله سبحانه وتعالى وسلطانه القائم في الوجود بالنور؛ إنما هو لما في النور من لطف، بحيث لا يتجسَّد أبدًا؛ بل إنه في هذا على عكس الأشياء كلها. فالأشياء اللطيفة- كالزجاج الرقيق مثلاً- كلما علت طبقة منه طبقة أخرى زادت كثافته، ثم لا تزال شفافيته تقل، كلما تكاثرت طبقاته، حتى يصبح جسمًا معتمًا.. أما النور فإنه كلما، تضاعفت أشعته، ازداد شفافية وقدرة على كشف المرئيات، التي يقع عليها، من دون أن يشكل حيِّزًا في المكان، الذي ينيره، أو يحدث خلخلة في الهواء.
ومن جهة أخرى فإن النور- مع شفافيته ومع زيادة هذه الشفافية كلما كثر وقوي- هو من أكثر ظواهر الطبيعة سرعة؛ بحيث لا يكاد يقيَّد بزمن، فالشعاعة من الضوء تنتقل من طرف الأرض إلى طرفها الآخر في لمَحة بصر، لا تتجاوز جزءًا من الثانية.
فالنور- كما ترى- لا يتحيَّز في مكان، ولا يكاد يتقيد بزمن، والله سبحانه وتعالى لا يحويه مكان، ولا يحده زمان.. فإذا كان الله نور السموات والأرض، كان معنى هذا أنه- سبحانه وهو القيوم على الوجود- ليس حالاً في الموجودات، ولا متحيِّزًا فيها، ولا محجوزًا في مكان منها دون مكان “.
نخلص من ذلك كله إلى أن نور الله سبحانه هو الذي يمسك هذا الوجود على نظامه، الذي أقامه الله تعالى عليه؛ إذ على هذا النور يدور كل موجود في فلكه متناغمًا متجاوبًا مع دورة الموجودات كلها في فلك الوجود. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:
" وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ "(النور: ٤٠). وقوله تعالى:
" قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ "(المائدة: ١٥)
وفي المسند الجامع لأبي الفضل النوري عن عبد الله بن عمر أنه سمع النبي ﷺ يقول:” إن الله خلق خلقه في ظلمة، وألقى عليهم من نوره، فمن أصابه من ذلك النور اهتدى، ومن أخطأه ضل “.
وعلى هذا يكون المراد بقوله تعالى:" اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ " كل ما أودعه الله جل جلاله في الموجودات من سنن، وما ركَّبَه في المخلوقات من قوى، وما بعث في الناس من رسل، وما أنزل إليهم من كتب ودلائل، ففي كل هذا نور من نور الله جل وعلا!