وفرق بين أن تلقي خطاباً لنفس خالية من البواعث والمحرضات، وبين أن تلقي الخطاب نفسه إلى نفوس تشبعت بالإيمان، واستحضرت الآخرة واستعدت لها بأنواع العبادات _ لا شك أن هذا الأمر سيكون محل استجابة وموضع قبول.... ومن أجل ذلك وضعت آية الدين بعد كل هذه الرحلة الطويلة من حديث عن العقيدة وموقف الناس منها، ومن حديث عن التشريع وأعمدته الرئيسة ؛ فالنفوس صارت مهيئةً، والإيمان في أعلى درجاته، وهذا يصور أهمية استثارة النفوس لتلقي الأوامر والنواهي عامةً ؛ ومنها المتعلقة بالأموال.
ثم يأتي الختام الزاخر بما أعده للممتثلين الطائعين الطامعين في عطاء الله تعالى وعفوه.
وكأن ما تقدم من توطئة لا يكفي، فلابد من إحاطة هذه الأوامر والنواهي من جانبيها بسياج منيع ؛ حتى لا يترك للنفوس مخرج، أو محيص عنها ؛ فيذكر بعد آية الدَّين آيات الختام، وهي آيات باعثة ومحرضة أيضاً على الامتثال والطاعة، لما تحمله من جزاء الطائعين وثواب الممتثلين، بالإضافة إلى ترهيب المعرضين، والتنويه بما ينتظرهم من عذاب أليم.
*********
رابعاً : المقصود الأعظم لسورة البقرة وعلاقة آية المداينة به
-------------------------------------
الإيمان بالغيب - وبخاصة البعث - هو أقرب المعاني إلى مقصود سورة البقرة، وقد انتشر ذلك في السورة على نحو ظاهر ؛ فلقد بدأت السورة بقوله تعالى :( ألم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) (البقرة ١ - ٣)
* فكان أول صفات المتقين : الإيمان بالغيب.
* وفي قصة آدم عليه الصلاة والسلام يقول الله تعالى للملائكة (َ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ) (البقرة: ٣٠)
* * وتقرّ الملائكة بهذه الحقيقة فتقول ( سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) (البقرة: ٣٢).


الصفحة التالية
Icon