المبحث الرابع : أسباب الاختلاف في القرآن
ذكرنا في المبحث السابق الطعون العامة التي يوردها الطاعنون، ونشير هنا إلي الأسباب التي كانت وراءها، أو التي دفعت هؤلاء إلي الخوض في قضايا تمس القرآن الكريم، ومن ثم يمكن القول بأن اختلافهم في القرآن يرجع إلى مجموعة من الاعتبارات ؛ نذكر أهمها فيما يلى :
أما نفي نسبة القرآن إلى الله تعالى، وزعم عدم حفظ القرآن، وما يندرج تحتهما من طعونات، فإنها دعاوى من غير أدلة ولا برهان، وسببها الحقد المحض، ولعل سببها الوحيد لديهم دعواهم وجود التناقض في القرآن، والتناقض دليل على عدم قدسيته.
وأما دعوى تناقض القرآن فإنها ترجع لخمسة أسباب، كما ذكرها الزركشي، فقد قال - رحمه الله - :
الأول : وقوع المخبر به على أحوال مختلفة وتطويرات شتى :
كقوله تعالى في خلق آدم إنه (من تراب( [ آل عمران : ٥٩]، ومرة (من حمأ مسنون( [الحجر : ٢٦]، ومرة (من طين لازب( [الصافات : ١١]، ومرة (من صلصال كالفخار( [الرحمن : ١٤]، وهذه الألفاظ مختلفة، ومعانيها في أحوال مختلفة ؛ لأن الصلصال غير الحمأ، والحمأ غير التراب، إلا أن مرجعها كلها إلى جوهر، وهو التراب، ومن التراب تدرجت هذه الأحوال.
ومنه قوله تعالى :(فإذا هي ثعبان مبين( [ الشعراء : ٣٢ ]، وفي موضع (تهتز كأنها جان( [القصص : ٣١]، والجان الصغير من الحيات، والثعبان الكبير منها ؛ وذلك لأن خلقها خلق الثعبان العظيم واهتزازها وحركاتها وخفتها كاهتزاز الجان وخفته.
السبب الثاني : اختلاف الموضوع :
كقوله تعالى :(وقفوهم إنهم مسئولون([الصافات : ٢٤]، وقوله :(فلنسألن الذين أرسل إليهم و لنسألن المرسلين( [ الأعراف : ٦ ]، مع قوله :(فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان( [الرحمن : ٣٦] ؛ قال الحليمي : فتحمل الآية الأولى على السؤال عن التوحيد وتصديق الرسل، والثانية على ما يستلزم الإقرار بالنبوات من شرائع الدين وفروعه.
وحمله غيره على اختلاف الأماكن ؛ لأن في القيامة مواقف كثيرة، فموضع يسأل ويناقش وموضع آخر يرحم ويلطف به، وموضع آخر يعنف ويوبخ وهم الكفار، وموضع آخر لا يعنف وهم المؤمنون.
وقوله :(ولا يكلمهم الله يوم القيامة([البقرة : ١٧٤]، مع قوله :(فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون([الحجر : ٩٢-٩٣] وقيل : المنفي كلام التلطف والإكرام، والمثبت سؤال التوبيخ والإهانة، فلا تنافي، وقيل : إن المنفي كلامهم في النار، والمثبت كلامهم في الحساب.
وكقوله :(ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين([الأنعام : ٢٣]، مع قوله :(ولا يكتمون الله حديثا([النساء : ٤٢]، فإن الأولى تقتضي أنهم كتموا كفرهم السابق، والجواب من وجهين ؛ أحدهما : أن للقيامة مواطن ففي بعضها يقع منهم الكذب، وفي بعضها لا يقع، كما سبق، والثاني : أن الكذب يكون بأقوالهم، والصدق يكون من جوارحهم، فيأمرها الله تعالى بالنطق فتنطق بالصدق.
ومنه قوله تعالى :(اتقوا الله حق تقاته([آل عمران : ١٠٢]، مع قوله :(فاتقوا الله ما استطعتم([التغابن : ١٦]، يحكى عن الشيخ العارف أبي الحسن الشاذلي، رحمه الله، أنه جمع بينهما فحمل الآية الأولى على التوحيد، والثانية على الأعمال، والمقام يقتضي ذلك ؛ لأنه قال بعد الأولى (ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون(.
وقيل : بل الثانية ناسخة ؛ قال ابن المنير : الظاهر أن قوله :(اتقوا الله حق تقاته( إنما نسخ حكمه لا فضله وأجره، وقد فسر النبي ( ﷺ ) حق تقاته بأن قال :« هو أن يطاع فلا يعصى ويذكر فلا ينسى ويشكر فلا يكفر ». فقالوا : أينا يطيق ذلك. فنزلت(فاتقوا الله ما استطعتم( وكان التكليف أولا باستيعاب العمر بالعبادة بلا فترة ولا نعاس، كما كانت الصلاة خمسين ثم صارت بحسب الاستطاعة خمسا، والاقتدار منزل على هذا الاعتبار، ولم ينحط من درجاته، وقال الشيخ كمال الدين الزملكاني : وفي كون ذلك منسوخا نظر، وقوله :(ما استطعتم( هو (حق تقاته( إذ به أمر فإن (حق تقاته( الوقوف على أمره ودينه، وقد قال بذلك كثير من العلماء اهـ.
والحديث الذي ذكره ابن المنير في تفسيره (حق تقاته(لم يثبت مرفوعا، بل هو من كلام ابن مسعود رواه النسائي، وليس فيه قول الصحابة : أينا يطيق ذلك، ونزول قوله تعالى :(فاتقوا الله ما استطعتم(.
ومنه قوله تعالى :(فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة([النساء : ٣] مع قوله في أواخر السورة :(ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم( [النساء : ١٢٩] فالأولى تُفهم إمكان العدل، والثانية تنفيه ؛ والجواب أن المراد بالعدل في الأولى العدل بين الأزواج في توفية حقوقهن، وهذا ممكن الوقوع وعدمه، والمراد به في الثانية الميل القلبي ؛ فالإنسان لا يملك ميل قلبه إلى بعض زوجاته دون بعض، وقد كان يقسم بين نسائه ثم يقول :" اللهم هذا قسمي في ما أملك، فلا تؤاخذني بما لا أملك ". يعني ميل القلب، وكان عمر يقول : اللهم قلبي فلا أملكه، وأما ما سوى ذلك فأرجو أن أعدل.
ويمكن أن يكون المراد بالعدل في الثانية العدل التام ؛ أشار إليه ابن عطية، وقد يحتاج الاختلاف إلى تقدير، فيرتفع به الإشكال كقوله تعالى :(لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى([النساء : ٩٥] ثم قال سبحانه :(وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما( والأصل في الأولى : وفضل الله المجاهدين على القاعدين من أولي الضرر درجة، والأصل في الثانية : وفضل الله المجاهدين على القاعدين من الأصحاء درجات.
وكقوله تعالى :(إن الله لا يأمر بالفحشاء([الأعراف : ٢٨] مع قوله :(أمرنا مترفيها ففسقوا فيها([الإسراء : ١٦]، والمعنى أمّرناهم وملّكناهم وأردنا منهم الصلاح فأفسدوا، والمراد بالأمر في الأولى أنه لا يأمر به شرعا ولكن قضاء ؛ لاستحالة أن يجري في ملكه مالا يريد، وفرقٌ بين الأمر الكوني والديني.
الثالث : الاختلاف في جهتي الفعل :
كقوله تعالى :(فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم( [الأنفال : ١٧] ؛ أضيف القتل إليهم على جهة الكسب والمباشرة، ونفاه عنهم باعتبار التأثير ؛ ولهذا قال الجمهور : إن الأفعال مخلوقة لله تعالى، مكتسبة للآدميين، فنفي الفعل بإحدى الجهتين لا يعارضه إثباته بالجهة الأخرى. وكذا قوله :(وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى([الأنفال: ١٧] أي ما رميت خلقا إذ رميت كسبا. وقيل : إن الرمي يشتمل على القبض والإرسال وهما بكسب الرامي، وعلى التبليغ والإصابة وهما بفعل الله عز وجل ؛ قال ابن جرير الطبري : وهي الدليل على أن الله خالق لأفعال العباد ؛ فإن الله تعالى أضافه إلى نبيه ثم نفاه عنه، وذلك فعل واحد ؛ لأنه من الله تعالى التوصيل إليهم ومن نبيه بالحذف والإرسال، وإذا ثبت هذا لزم مثله في سائر أفعال العباد المكتسبة، فمن الله تعالى الإنشاء والإيجاد، ومن الخلق الاكتساب بالقوى.
ومثله قوله تعالى :(الرجال قوامون على النساء([النساء : ٣٤] وقال تعالى :(وقوموا لله قانتين([البقرة : ٢٣٨] فقيام الانتصاب لا ينافي القيام بالأمر لاختلاف جهتي الفعل.
الرابع : الاختلاف في الحقيقة والمجاز :
كقوله :(وترى الناس سكارى وما هم بسكارى([الحج : ٢] (ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت([إبراهيم : ١٧] وهو يرجع لقول المناطقة : الاختلاف بالإضافة. أي وترى الناس سكارى بالإضافة إلى أهوال القيامة مجازا، وما هم بسكارى بالإضافة إلى الخمر حقيقة.
ومثله في الاعتبارين قوله تعالى :(آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين( [البقرة: ٨] وقوله :(ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون([الأنفال : ٢١]، وقوله تعالى :(وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون( [الأعراف : ١٩٨]، فإنه لا يلزم من نفي النظر نفي الإبصار، لجواز قولهم : نظرت إليه فلم أبصره.
الخامس : بوجهين واعتبارين :
وهو الجامع للمفترقات، كقوله :(فبصرك اليوم حديد([ق : ٢٢] وقال :(خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي([الشورى : ٤٥]، قال قطرب :(فبصرك( : أي علمك ومعرفتك بها قوية، من قولهم : بصر بكذا وكذا. أي علم، وليس المراد رؤية العين، قال الفارسي : ويدل على ذلك قوله :(فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم الحديد( وصف البصر بالحدة.
وكقوله تعالى :(وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك( [الأعراف : ١٢٧] مع قوله :(أنا ربكم الأعلى( [النازعات : ٢٤] ؛ فقيل : يجوز أن يكون معناه : ويذرك وآلهتك إن ساغ لهم، ويكون إضافة الآلهة إليه ملكا كان يعبد في دين قومه، ثم يدعوهم إلى أن يكون هو الأعلى، كما تقول العرب موالي من فوق وموالي من أسفل، فيكون اعتقادهم في الآلهة مع فرعون أنها مملوكة له، فيحسن قولهم :(وآلهتك((١٠٨)، وقوله تعالى :(الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله( [الرعد : ٢٨] مع قوله :(إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم( [الأنفال : ٢] فقد يظن أن الوجل خلاف الطمأنينة ؛ وجوابه أن الطمأنينة إنما تكون بانشراح الصدر بمعرفة التوحيد، والوجل يكون عند خوف الزيغ والذهاب عن الهدى، فتوجل القلوب لذلك، وقد جمع بينهما في قوله :(تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله( [الزمر : ٢٣] فإن هؤلاء قد سكنت نفوسهم إلى معتقدهم، ووثقوا به، فانتفى عنهم الشك.
وكقوله :(خمسين ألف سنة( [المعارج : ٤] وفي موضع (ألف سنة( [السجدة : ٥]، وأجيب بأنه باعتبار حال المؤمن والكافر بدليل (وكان يوما على الكافرين عسيرا( [الفرقان : ٢٦]. وكقوله :(بألف من الملائكة مردفين( [الأنفال : ٩] وفي آية أخرى (بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين( [آل عمران : ١٢٤]، قيل : إن الألف أردفهم بثلاثة آلاف، وكان الأكثر مددا للأقل، وكان الألف (مردفين) بفتحها…)(١٠٩).
إذن فأسباب إيهام التناقض عند الزركشي خمسة :-
السبب الأول : وقوع المخبر به على أحوال مختلفة وتطويرات شتى.
السبب الثاني : اختلاف الموضوع.
السبب الثالث : اختلافهما في جهتي الفعل.
السبب الرابع : اختلافهما في الحقيقة والمجاز.
السبب الخامس : الاختلاف لوجهين واعتبارين.
وذكر صاحب كشف الأسرار أن من أسباب الاختلاف في القرآن :
(١- ( الغُمُوض فِي المعنى ) أَيْ الْإشكال إنَّمَا يَقَعُ لِغُمُوضٍ فِي الْمَعْنَى، وَمِنْ نَظَائِرِهِ قولُه تعالى :(فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ(، اشْتَبَهَ مَعْنَاهُ عَلَى السَّامِعِ أَنَّهُ بِمَعْنَى كَيْفَ أَوْ بِمَعْنَى أَيْنَ، فَعُرِفَ بَعْدَ الطَّلَبِ وَالتَّأَمُّلِ أَنَّهُ بِمَعْنَى كَيْفَ، بِقَرِينَةِ الْحَرْثِ وَبِدَلَالَةِ حُرْمَةِ الْقُرْبَانِ فِي الْأَذَى الْعَارِضِ، وَهُوَ الْحَيْضُ فَفِي الْأَذَى اللَّازِمِ أَوْلَى.
٢- (والاستعارة البديعة) وَأَمَّا نَظِيرُ الِاسْتِعَارَةِ الْبَدِيعَةِ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى :(قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ(، فَالْقَوَارِيرُ لَا يَكُونُ مِنْ الْفِضَّةِ، وَمَا كَانَ مِنْ الْفِضَّةِ لَا يَكُونُ قَوَارِيرَ، وَلَكِنْ لِلْفِضَّةِ صِفَةُ كَمَالٍ، وَهِيَ نَفَاسَةُ جَوْهَرِهِ وَبَيَاضُ لَوْنِهِ، وَصِفَةُ نُقْصَانٍ وَهِيَ أَنَّهَا لَا تَصْفُو وَلَا تَشِفُّ وَلِلْقَارُورَةِ صِفَةُ كَمَالٍ أَيْضًا، وَهِيَ الصَّفَاءُ وَالشَّفِيفُ، وَصِفَةُ نُقْصَانٍ، وَهِيَ خَسَاسَةُ الْجَوْهَرِ، فَعُرِفَ بَعْدَ الت