المبحث الثالث : قواعد التعامل مع المطاعن
لنا في التعامل مع المطاعن التي تثار حول كتاب الله قواعد عدة، وهي كالتالي :
أولا : اليقين التام بأن جميع هذه المطاعن مفتراة مكذوبة، لا أصل لها من الصحة، ولا أساس لها من الواقع، وإنما هي محض أوهام بل أضغاث أحلام، جاءت من قلب امرئ حاقد أو جاهل ؛ لأن الله تعالى يقول :(لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ( [فصلت : ٤٢]، فما كان لنا إن نكذب ربنا ونصدق ملحدا حاقدا أو مجادلا جاهلا، وهذه القضية في غاية من الأهمية ؛ إذ أن كل من تأثر بالمستشرقين من المعاصرين لم تكن عنده هذه القضية من المسلمات، بل ضعف يقينهم في هذا الباب أدى بهم إلى هذه المزالق.
ثانيا : إن عدم قدرة إنسان معين على الرد، ليس معناه الهزيمة والعجز وإثبات الطعن، بل إنه لا يخلو زمان من قائم لله بالحجة ؛ لقوله تعالى :(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ( [الحجر : ٩].
ثالثا : قانون العمل عند وجود الطعن لسبب ما :
١- الجمع بين مدلولات النصوص والتوفيق بينها ما أمكن : فالخاص يقدم على العام، والمطلق يقيد بالمقيد.. إلخ.
٢- فإن تعذر الجمع، فالنسخ إن أمكن ذلك، وعلم المتقدم والمتأخر.
٣- فإن تعذر ذلك لجأنا إلى الترجيح، فيقدم الراجح للعمل.
مسلك الترجيح بين الآيات يقوم على الأتي :
١- تقديم المدني على المكي.
٢- أن يكون الحكم على غالب أحوال أهل مكة، والآخر على غالب حال أهل المدينة، فيقدم الحكم بالخبر الذي فيه أحوال أهل المدينة.
٣- أن يكون أحد الظاهرين مستقلا بحكمه والآخر مقتضيا لفظا يزاد عليه، فيقدم المستقل بنفسه عند المعارضة والترتيب.
٤- أن يكون كل واحد من العمومين محمولا على ما قصد به في الظاهر عند الاجتهاد، فيقدم ذلك على تخصيص كل واحد منهما من المقصود بالآخر.
٥- أن يكون تخصيص أحد الاستعمالين على لفظ تعلق بمعناه والآخر باسمه.
٦- ترجيح ما يعلم بالخطاب ضرورة على ما يعلم منه ظاهرا.
قال الزركشي(١٣٨) :(فصل في القول عند تعارض الآي : قال الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني : إذا تعارضت الآي، وتعذر فيها الترتيب والجمع، طلب التاريخ، وترك المتقدم منهما بالمتأخر، ويكون ذلك نسخا له. وإن لم يوجد التاريخ، وكان الإجماع على استعمال إحدى الآيتين، علم بإجماعهم أن الناسخ ما أجمعوا على العمل بها.
قال : ولا يوجد في القرآن آيتان متعارضتان تعريان عن هذين الوصفين.
وذكروا عند التعارض مرجحات :
الأول : تقديم المدني على المكي، وإن كان يجوز أن تكون المكية نزلت عليه ﷺ بعد عوده إلى مكة، والمدنية قبلها، فيقدم الحكم بالآية المدنية على المكية في التخصيص والتقديم ؛ إذ كان غالب الآيات المكية نزولها قبل الهجرة.
الثاني : أن يكون أحد الحكمين على غالب أحوال أهل مكة، والآخر على غالب أحوال أهل المدينة، فيقدم الحكم بالخبر الذي فيه أحول أهل المدينة، كقوله تعالى :(ومن دخله كان آمنا( مع قوله :(كتب عليكم القصاص في القتلى( [ سورة البقرة ١٧٨ ] فإذا أمكن بناء كل واحدة من الآيتين على البدل، جعل التخصيص في قوله تعالى :(ومن دخله كان آمنا( كأنه قال إلا من وجب عليه القصاص ومثل قوله :(غير محلي الصيد وأنتم حرم([سورة المائدة : ١] ونهيه ( عن قتل صيد مكة مع قوله تعالى :(يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين( [سورة المائدة : ٤] فجعل النهي فيمن اصطاده في الحرم، وخص من اصطاده في الحل وأدخله حيا فيه.
الثالث : أن يكون أحد الظاهرين مستقلا بحكمه، والآخر مقتضيا لفظا يزاد عليه، فيقدم المستقل بنفسه عند المعارضة والترتيب، كقوله تعالى :(وأتموا الحج والعمرة لله( [سورة البقرة : ١٩٦ ] مع قوله :(فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي( [ البقرة : ١٩٦ ] وقد أجمعت الأمة على أن الهدي لا يجب بنفس الحصر، وليس فيه صريح الإحلال بما يكون سببا له، فيقدم المنع من الإحلال عند المرض بقوله :(وأتموا الحج والعمرة لله( على ما عارضه من الآية.
الرابع : أن يكون كل واحد من العمومين محمولا على ما قصد به في الظاهر عند الاجتهاد، فيقدم ذلك على تخصيص كل واحد منهما من المقصود بالآخر، كقوله :(وأن تجمعوا بين الأختين( بقوله :(وما ملكت أيمانكم(فيخص الجمع بملكه اليمين بقوله تعالى :(وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف( [ النساء : ٢٣ ] فتحمل آية الجمع على العموم، والقصد فيها بيان ما يحل وما يحرم وتحمل آية الإباحة على زوال اللوم فيمن أتى بحال.
الخامس : أن يكون تخصيص أحد الاستعمالين على لفظ تعلق بمعناه والآخر باسمه، كقوله :(شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم( [ المائدة : ١٠٦ ] مع قوله تعالى :(إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا(
[ الحجرات : ٦] الآية فيمكن أن يقال في الآية بالتبين عند شهادة الفاسق إذا كان ذلك من كافر على مسلم، أو مسلم فاسق على كافر، وأن يقبل الكافر على الكافر وإن كان فاسقا، أو يحمل ظاهر قوله :(أو آخران من غيركم( على القبيلة دون الملة، ويحمل الأمر بالتثبت على عموم النسيان في الملة لأنه رجوع إلى تعيين اللفظ، وتخصيص الغير بالقبيلة ؛ لأنه رجوع إلى الاسم على عموم الغير.
السادس : ترجيح ما يعلم بالخطاب ضرورة على ما يعلم منه ظاهرا، كتقديم قوله تعالى :(وأحل الله البيع( [البقرة : ٢٧٥] على قوله :(وذروا البيع( [ الجمعة : ٩ ] فإن قوله :(وأحل( يدل على حل البيع ضرورة، ودلالة النهي على فساد البيع إما ألا تكون ظاهرة أصلا، أو تكون ظاهرة منحطة عن النص) اهـ.
وقد ذكر الشوكاني في كتابه " إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول " في باب أنواع الترجيح(١٣٩) طرقا كثيرة للترجيح : فباعتبار المتن ذكر ثمانية وعشرين نوعا، وباعتبار المدلول تسعة أنواع، والترجيح باعتبار أمور خارجة ذكر عشرة أنواع ؛ فالمجموع سبعة وأربعون نوعا للترجيح.
يقول الشوكاني :(واعلم أن الترجيح قد يكون باعتبار الإسناد، وقد يكون باعتبار المتن، وقد يكون باعتبار المدلول، وقد يكون باعتبار أمر خارج، فهذه أربعة أنواع)(١٤٠).
( فأما باعتبار السند فهذه لا يلتفت إليها في القرآن ؛ لأنه قطعي الثبوت، وإنما تكون في التعارض بين الأحاديث.
وأما المرجحات باعتبار المتن فهي أنواع، فمن الأنواع التي لها أثر فيما ظاهره التعارض في القرآن :
١-تقديم الحقيقة على المجاز، لتبادرها إلى الذهن، هذا إذا لم يغلب المجاز كقوله تعالى (.. بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ.. ( فيكون المراد بها اليد الحقيقية لا المجاز بمعنى القوة والكرم، لاسيما والتثنية تأباه.
٢- أنه يقدم المجاز الذي هو أشبه بالحقيقة على المجاز الذي لم يكن كذلك.
٣- أنه يقدم ما كان حقيقة شرعية أو عرفية على ما كان حقيقة لغوية.
٤- أنه يقدم ما كان مستغنيا عن الإضمار في دلالته على ما هو مفتقر إليه.
٥-أنه يقدم الدال على المراد من وجهين على ما كان دالا على المراد من وجه واحد.
٦- أنه يقدم ما دل على المراد بغير واسطة على ما دل عليه بواسطة.
٧- أنه يقدم مفهوم الموافقة على مفهوم المخالفة.
وأما المرجحات باعتبار المدلول فهي أنواع :
١- أنه يقدم ماكان ناقلالحكم الأصل والبراءة علىماكان مبقيا على البراءة الأصلية.
٢- أنه يقدم ما فيه تأسيس على ما فيه تأكيد.
وأما المرجحات بحسب الأمور الخارجة فهي أنواع :
١- أنه يقدم ما عضده دليل آخر على ما لم يعضده دليل آخر.
٢- أنه يقدم ما كان فيه التصريح بالحكم على ما لم يكن كذلك كضرب الأمثال ونحوها فإنها ترجح العبارة على الإشارة)(١٤١).
يضاف لهذا ما ذكره الزركشي.
--------------------------------------------------------------------------------
(١٣٨) البرهان في علوم القرآن للزركشي (٢/٤٨-٥١).
(١٣٩) إرشاد الفحول (٢/٣٨٢-٣٩٤).
(١٤٠) إرشاد الفحول (٢/٣٨٢).
(١٤١) المرجع السابق، باختصار وتصرف.