المطلب السابع: عدم استغلاله فرص التعالي :-
في بعض المواقف تحصل للنبي ( فرصة عظيمة للتعالي والتكبر والفخر، ولكنه يأبى أن يفعل ذلك، ولو كان كاذبا لاستغلها أعظم استغلال :
يقول إميل درمنغم(٣٠٥): (ولد لمحمد ابنه إبراهيم فمات طفلا، فحزن عليه كثيرا ولحده بيده، ووافق موتُه كسوف الشمس، فقال المسلمون : إنها انكسفت لموت إبراهيم. ولكن محمدا كان من سمو النفس ما رأى به رد ذلك، فقال: « إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته.. » (٣٠٦) ؛ فقول مثل هذا لا يصدر عن كاذب دجال..)(٣٠٧). وهذا كلام حق، فلو كان غير النبي ( ﷺ ) من مدعي النبوة، لاهتبل هذه الفرصة وقال : انظروا إلى الشمس حزنت لحزني و انكسفت.
ومن هذا الباب حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ : كَانَ أَهْلُ بَيْتٍ مِنَ الْأَنْصَارِ لَهُمْ جَمَلٌ يَسْنُونَ(٣٠٨) عَلَيْهِ، وَإِنَّ الْجَمَلَ اسْتُصْعِبَ عَلَيْهِمْ فَمَنَعَهُمْ ظَهْرَهُ، وَإِنَّ الْأَنْصَارَ جَاءُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ( ﷺ )، فَقَالُوا : إِنَّهُ كَانَ لَنَا جَمَلٌ نُسْنِي، عَلَيْهِ وَإِنَّهُ اسْتُصْعِبَ عَلَيْنَا وَمَنَعَنَا ظَهْرَهُ، وَقَدْ عَطِشَ الزَّرْعُ وَالنَّخْلُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( ﷺ ) لِأَصْحَابِهِ :« قُومُوا ». فَقَامُوا فَدَخَلَ الْحَائِطَ وَالْجَمَلُ فِي نَاحِيَةٍ، فَمَشَى النَّبِيُّ ( نَحْوَهُ، فَقَالَتَ الْأَنْصَارُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنَّهُ قَدْ صَارَ مِثْلَ الْكَلْبِ الْكَلِبِ(٣٠٩) وَإِنَّا نَخَافُ عَلَيْكَ صَوْلَتَهُ. فَقَالَ :« لَيْسَ عَلَيَّ مِنْهُ بَأْسٌ(٣١٠)». فَلَمَّا نَظَرَ الْجَمَلُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ( ﷺ ) أَقْبَلَ نَحْوَهُ حَتَّى خَرَّ سَاجِدًا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ ( ﷺ ) بِنَاصِيَتِهِ أَذَلَّ مَا كَانَتْ قَطُّ حَتَّى أَدْخَلَهُ فِي الْعَمَلِ، فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذِهِ بَهِيمَةٌ لَا تَعْقِلُ تَسْجُدُ لَكَ! وَنَحْنُ نَعْقِلُ، فَنَحْنُ أَحَقُّ أَنْ نَسْجُدَ لَكَ. فَقَالَ :« لَا يَصْلُحُ لِبَشَرٍ أَنْ يَسْجُدَ لِبَشَرٍ، وَلَوْ صَلَحَ لِبَشَرٍ أَنْ يَسْجُدَ لِبَشَرٍ، لَأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا مِنْ عِظَمِ حَقِّهِ عَلَيْهَا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ كَانَ مِنْ قَدَمِهِ إِلَى مَفْرِقِ رَأْسِهِ قُرْحَةً تَنْبَجِسُ بِالْقَيْحِ وَالصَّدِيدِ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَتْهُ فَلَحَسَتْهُ مَا أَدَّتْ حَقَّهُ » (٣١١).
فلم يستغل النبي ( ﷺ ) سجود الجمل له ليعظم نفسه أو يرفعها، بل قال : لا يصلح لبشر أن يسجد لبشر.
--------------------------------------------------------------------------------
(٣٠٥) مستشرق فرنسي، عمل مديرا لمكتبة الجزائر، من آثاره: (حياة محمد) في باريس عام (١٩٢٩)، وهو من أدق ما صنفه مستشرق عن النبي ( ﷺ )، و(محمد والسنة الإسلامية) ألفه في باريس(١٩٥٥). انظر: قالوا عن الإسلام: ص: ٦٠.
(٣٠٦) متفق عليه (البخاري: كتاب الجمعة، باب الدعاء في الخسوف، رقم : ١٠١٢، ومسلم : كتاب الكسوف، باب صلاة الكسوف، رقم : ٩٠١).
(٣٠٧) حياة محمد له (ص: ٣١٨)، نقله عنه كتاب" قالوا عن الإسلام " ص: ٦٠.
(٣٠٨) يسنون عليه : أي يستقون عليه لسان العرب ( س ن ي )، وسني الدابة : استقي عليها الماء. المعجم الوسيط
(س ن ي)
(٣٠٩) أي المسعور. يقال كَلِبَ الكَلِبَ يَكْلَبُ كَلَباً : أصابة داءُ الكَلِبَ. انظر : الوسيط ( ك ل ب )، ولسان العرب (١/٧٢٢).
(٣١٠) فالذي عصمه من كل أذى الناس ألا يقدر أن يعصمه من الحيوان؟.
(٣١١) أخرجه الإمام أحمد (١٢٢٠٣)وإسناده حسن.( صححه الألباني في صحيح الترغيب، رقم : ١٩٣٦ ) وقد تقدم في ذكر آيات النبي ( ﷺ )