المطلب التاسع : حمايته من كل ما يكاد به، ونجاته من كل محاولات الاغتيال :
وهذا الدليل استدل به اليهود على صدق النبي ( ﷺ ) :
ففي حديث عائشة عندما سحر النبي ( ﷺ ) لبيد بن الأعصم(٣٢٠)، (أَخْرَجَ اِبْن سَعْد بِسَنَدٍ لَهُ إِلَى عُمَر بْن الْحَكَم مُرْسَل قَالَ : لَمَّا رَجَعَ رَسُول اللَّه ( مِنْ الْحُدَيْبِيَة فِي ذِي الْحَجَّة، وَدَخَلَ الْمُحَرَّم مِنْ سَنَة سَبْع جَاءَتْ رُؤَسَاء الْيَهُود إِلَى لَبِيد بْن الْأَعْصَم - وَكَانَ حَلِيفًا فِي بَنِي زُرَيْق وَكَانَ سَاحِرًا - فَقَالُوا لَهُ : يَا أَبَا الْأَعْصَم، أَنْتَ أَسْحَرنَا، وَقَدْ سَحَرْنَا مُحَمَّدًا فَلَمْ نَصْنَع شَيْئًا، وَنَحْنُ نَجْعَل لَك جُعْلًا عَلَى أَنْ تَسْحَرهُ لَنَا سِحْرًا يَنْكَؤُهُ، وفي رواية اِبْن سَعْد : فَقَالَتْ أُخْت لَبِيد بْن الْأَعْصَم : إِنْ يَكُنْ نَبِيًّا فَسَيُخْبَرُ، وَإِلَّا فَسَيُذْهِلُهُ هَذَا السِّحْر حَتَّى يَذْهَب عَقْله)(٣٢١).
وفي الصحيحين عَنْ أَنَسٍ : أَنَّ امْرَأَةً يَهُودِيَّةً أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ ( ﷺ ) بِشَاةٍ مَسْمُومَةٍ، فَأَكَلَ مِنْهَا، فَجِيءَ بِهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ( ﷺ ) فَسَأَلَهَا عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَتْ : أَرَدْتُ لِأَقْتُلَكَ. قَالَ :« مَا كَانَ اللَّهُ لِيُسَلِّطَكِ عَلَيَّ » (٣٢٢)، ورواه أبو داود من حديث جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ يُحَدِّثُ : أَنَّ يَهُودِيَّةً مِنْ أَهْلِ خَيْبَرَ سَمَّتْ شَاةً مَصْلِيَّةً(٣٢٣)، ثُمَّ أَهْدَتْهَا لِرَسُولِ اللَّهِ ( ﷺ )، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ ( ﷺ ) الذِّرَاعَ فَأَكَلَ مِنْهَا، وَأَكَلَ رَهْطٌ مِنْ أَصْحَابِهِ مَعَهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ( ﷺ ) :« ارْفَعُوا أَيْدِيَكُمْ ». وَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ ( ﷺ ) إِلَى الْيَهُودِيَّةِ فَدَعَاهَا، فَقَالَ لَهَا :« أَسَمَمْتِ هَذِهِ الشَّاةَ ؟ » قَالَتْ الْيَهُودِيَّةُ : مَنْ أَخْبَرَكَ؟ قَالَ :« أَخْبَرَتْنِي هَذِهِ فِي يَدِي ». لِلذِّرَاعِ، قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ :«فَمَا أَرَدْتِ إِلَى ذَلِكَ ؟ ». قَالَتْ : قُلْتُ : إِنْ كَانَ نَبِيًّا فَلَنْ يَضُرَّهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا اسْتَرَحْنَا مِنْهُ. فَعَفَا عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ ( ﷺ ) وَلَمْ يُعَاقِبْهَا)(٣٢٤).
وقد بدأت هذه المحاولات من بداية البعثة :
فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ( : أَنَّ الْمَلَأَ مِنْ قُرَيْشٍ اجْتَمَعُوا فِي الْحِجْرِ، فَتَعَاهَدُوا بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةِ الْأُخْرَى، لَوْ قَدْ رَأَيْنَا مُحَمَّدًا قُمْنَا إِلَيْهِ قِيَامَ رَجُلٍ وَاحِدٍ فَلَمْ نُفَارِقْهُ حَتَّى نَقْتُلَهُ. قَالَ : فَأَقْبَلَتْ فَاطِمَةُ تَبْكِي حَتَّى دَخَلَتْ عَلَى أَبِيهَا، فَقَالَتْ : هَؤُلَاءِ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِكَ فِي الْحِجْرِ قَدْ تَعَاهَدُوا أَنْ لَوْ قَدْ رَأَوْكَ قَامُوا إِلَيْكَ فَقَتَلُوكَ، فَلَيْسَ مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلَّا قَدْ عَرَفَ نَصِيبَهُ مِنْ دَمِكَ، قَالَ : يَا بُنَيَّةُ أَدْنِي وَضُوءًا فَتَوَضَّأَ ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهِمْ الْمَسْجِدَ، فَلَمَّا رَأَوْهُ قَالُوا : هُوَ هَذَا. فَخَفَضُوا أَبْصَارَهُمْ وَعُقِرُوا فِي مَجَالِسِهِمْ، فَلَمْ يَرْفَعُوا إِلَيْهِ أَبْصَارَهُمْ، وَلَمْ يَقُمْ مِنْهُمْ رَجُلٌ، فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ ( ﷺ ) حَتَّى قَامَ عَلَى رُءُوسِهِمْ، فَأَخَذَ قَبْضَةً مِنْ تُرَابٍ فَحَصَبَهُمْ بِهَا، وَقَالَ :«شَاهَتِ الْوُجُوهُ ». قَالَ : فَمَا أَصَابَتْ رَجُلًا مِنْهُمْ حَصَاةٌ إِلَّا قَدْ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ كَافِرًا)(٣٢٥).
وحادثة الهجرة عندما أرادوا أن يقتلوا النبي ( ﷺ ) قبل هجرته، فجعل النبي ( ﷺ ) مكانه عليَّ بنَ أبي طالب، وخرج من بيته مع أن الكفار قد أحاطوا به من كل جانب ؛إلا أن الله قد أعمى أبصارهم عنه(٣٢٦)، وفي هذا يقول سبحانه :( وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ( [الأنفال: ٣٠].
وعن أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ ( -في حديث الهجرة الطويل، وفيه-: الْتَفَتَ أَبُو بَكْرٍ فَإِذَا هُوَ بِفَارِسٍ قَدْ لَحِقَهُمْ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا فَارِسٌ قَدْ لَحِقَ بِنَا. فَالْتَفَتَ نَبِيُّ اللَّهِ، فَقَالَ:« اللَّهُمَّ اصْرَعْهُ ». فَصَرَعَهُ الْفَرَسُ، ثُمَّ قَامَتْ تُحَمْحِمُ، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ مُرْنِي بِمَا شِئْتَ. قَالَ :«فَقِفْ مَكَانَكَ لَا تَتْرُكَنَّ أَحَدًا يَلْحَقُ بِنَا ». قَالَ : فَكَانَ أَوَّلَ النَّهَارِ جَاهِدًا عَلَى نَبِيِّ اللَّهِ (، وَكَانَ آخِرَ النَّهَارِ مَسْلَحَةً لَهُ )(٣٢٧).
قال ابن حجر :(وفي قصة سراقة مع النبي ( ﷺ ) يقول سراقة مخاطبا أبا جهل:
أبا حكم والله لو كنت شاهدا لأمر جوادي إذ تسوخ قوائمه
علمت ولم تشكك بأن محمدا رسول ببرهان فمن ذا يقاومه) (٣٢٨)
واستمرت هذه المحاولات في المدينة أيضا، كما تقدم في حديث لبيد بن الأعصم، وحادثة الشاة المسمومة في خيبر في السنة الخامسة وكذلك حادثة بني النضير الذي أرادوا أن يلقوا الصخرة على النبي ( ﷺ ) وهو جالس تحت بيت من بيوتهم، فكان هذا سببا لجلائهم من المدينة(٣٢٩).
ولم تكن هذه المحاولات قاصرة على اليهود، بل حتى كفار قريش كانوا مستمرين في ذلك؛فـ(عن ابن شهاب قال : لما رجع كل المشركين إلى مكة، فأقبل عمير بن وهب حتى جلس إلى صفوان بن أمية في الحِجْر، فقال صفوان : قبح الله العيش بعد قتلى بدر. قال : أجل والله ما في العيش خير بعدهم، ولولا دين عليَّ لا أجد له قضاء، وعيال لا أدع لهم شيئا، لرحلت إلى محمد فقتلته إن ملأتُ عيني منه، فإن لي عنده علة أعتل بها عليه، أقول قَدِمْتُ من أجل ابني هذا الأسير. قال : ففرح صفوان وقال له : عليَّ دينُك وعيالك أسوة عيالي في النفقة، لا يسعني شيء فأعجز عنهم. فاتفقا وحمله صفوان وجهزه، وأمر بسيف عمير فصُقِلَ وسُمَّ، وقال عمير لصفوان : اكتم خبري أياما. وقدم عمير المدينة فنزل بباب المسجد وعقل راحلته، وأخذ السيف وعمد إلى رسول الله (، فنظر إليه عمر وهو في نفر من الأنصار، ففزع ودخل إلى رسول الله (، فقال : يا رسول الله لا تأمنه على شيء. فقال :« أدخله علي ». فخرج عمر فأمر أصحابه أن يدخلوا إلى رسول الله ( ويحترسوا من عمير، وأقبل عمر و عمير حتى دخلا على رسول الله ( ومع عمير سيفه، فقال رسول الله (لعمر :« تأخر عنه ». فلما دنا عمير قال : أنعموا صباحا -وهي تحية الجاهلية -فقال رسول الله ( :« قد أكرمنا الله عن تحيتك، وجعل تحيتنا تحية أهل الجنة وهو السلام ». فقال عمير : إن عهدك بها لحديث. فقال :« ما أقدمك يا عمير ؟ ». قال : قدمت على أسيري عندكم، تفادونا في أسرانا، فإنكم العشيرة والأهل. فقال :« ما بال السيف في عنقك؟». فقال : قبحها الله من سيوف، وهل أغنت عنا شيئا، إنما نسيته في عنقي حين نزلت. فقال رسول الله ( :« اصدقني ما أقدمك يا عمير ؟ ». قال : ما قدمت إلا في طلب أسيري. قال :« فماذا شرطت لصفوان في الحجر ؟ ». ففزع عمير وقال : ماذا شرطت له ؟ قال: «تحملت له بقتلي على أن يعول أولادك، ويقضي دينك، والله حائل بينك وبين ذلك ». فقال عمير : أشهد أنك رسول الله وأشهد أن لا إله إلا الله، كنا يا رسول الله نكذبك بالوحي وبما يأتيك من السماء، وإن هذا الحديث كان بيني وبين صفوان في الحِجْر -كما قلتَ-لم يطلع عليه أحد، فأخبرك الله به، فالحمد لله الذي ساقني هذا المساق. ففرح به المسلمون وقال له رسول الله ( :« اجلس يا عمير نواسك ». وقال لأصحابه :« علموا أخاكم القرآن ». وأطلق له أسيره، فقال عمير : ائذن لي يا رسول الله، فألحق بقريش، فأدعوهم إلى الله وإلى الإسلام لعل الله أن يهديهم، فأذن له فلحق بمكة، وجعل صفوان يقول لقريش: أبشروا بفتح ينسيكم وقعة بدر. وجعل يسأل كل راكب قدم من المدينة هل كان بها من حدث، حتى قدم عليهم رجل فقال لهم : قد أسلم عمير. فلعنه المشركون وقال صفوان : لله عليَّ إلا أكلمه أبدا ولا أنفعه بشيء. ثم قدم عمير فدعاهم إلى الإسلام، ونصحهم بجهده، فاسلم بسببه بشر كثير)(٣٣٠).
وغير ذلك من المحاولات التي باءت بالفشل، مما يدل على صدق قوله تعالى: ( والله يعصمك من الناس ( [المائدة : ٦٧]. وهذا يدل على صدق النبي ( ﷺ )، وأنه محفوظ من كل أذى حتى يبلغ دين الله كاملا، لذلك كان النبي ( ﷺ ) يدخل في فم الأسد -كما يقال- وهو مطمئن القلب رابط الجأش، كما فعل في حنين وأحد وغيرها من المعارك، ومنع الناس من حراسته لما علم بحفظ الله، وفي حادثة الهجرة عندما طوق المشركون الغار، ولم يكن بينهم وبين النبي ( ﷺ ) إلا أن ينظر أحدهم إلى قدمه، في هذه الحال العصيبة أحس النبي ( ﷺ ) بتوتر أبي بكر الصديق ( وشدة اضطرايه وخوفه فقال له :« لا تحزن إن الله معنا » (٣٣١).
يقول تعالى :( إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)[التوبة: ٤٠].
أي ثبات هذا وأي قلب يستطيع أن يهدأ في مثل هذا الموقف ؟ إنها حقا النبوة.
ومن هذا الباب قول الله تعالى عن نوح (:( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ ( [يونس: ٧١].
وقول هود (:(... قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ( [هود: ٥٤-٥٦].
--------------------------------------------------------------------------------
(٣٢٠) متفق عليه (البخاري : كتاب الطب، باب السحر، رقم : ٥٤٣٣، ومسلم: كتاب السلام، باب السحر، رقم: ٢١٨٩)، وسيأتي نصه صفحة.
(٣٢١) فتح الباري (١٠/٢٣٧).
(٣٢٢) متفق عليه (البخاري: كتاب الهبة وفضلها والتحريض عليها، باب قبول الهدية من المشركين، رقم: ٢٦١٧، ومسلم: كتاب السلام، باب السم، رقم : ٢١٩٠).
(٣٢٣) مصلية : مشوية. ( لسان العرب (١٤/٤٦٧)
(٣٢٤) سنن أبي داود (كتاب الديات، باب فيمن سقى رجلا سما أو أطعمه فمات أيقاد