المطلب الحادي عشر: إخباره بالنهايات في البدايات:
فقد أخبر النبي ( ﷺ ) بكثير من الأمور قبل حصولها، أو حتى حصول مقدماتها، مع أن هذا لا يتأتى من بني بشر(٣٥٩).
فالغيب بيننا وبينه حجاب كثيف، ولا ينخرق هذا الحجاب إلا بوحي من السماء.
نعم، قد يستشرف الإنسان المستقبل ويستقرئه ويستشفه عن طريق مقدمات و دلائل يلتمس منها النفوذ إلى حجاب المستقبل، كما يفعل الساسة والاقتصاديون وغيرهم، ولكنه في الغالب لا يكون صوابا، والصواب منه إنما حصل بسبب حصول مقدماته، كرجل مر على بيت قديم متهاوي، فقال : احذروا هذا البيت فإنه سيقع. قإننا نقول : قد يكون لكلامه شيء من الصحة باعتبار هذه الإشارات التي حصلت. وأما لو مر على بيت جديد محكم البناء، وقد بنُي على أحدث الطرق الهندسية بإشراف مهندسين ومتخصصين وخبراء، فقال: احذروا هذا البيت فإنه سيقع. لقلنا : هذه ترهات وسفاهات لا تصدر من عاقل.
لذلك إذا لم يكن هناك مقدمات وإشارات وقرائن، فلا يمكن لأحد أن يعرف ماذا سيحصل في المستقبل، بل ولا يمكن أن يعرف ماذا سيحصل بعد ثانية :( قُلْ لَا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ( [النمل: ٦٥].
فمثلا لو أن النبي ( ﷺ ) انتصر على العرب، ثم بشر بأنه سينتصر على العجم، لقلنا : إنما قال هذا لحصول مقدمات لهذا الحدث، وهو انتصاره على العرب، ولكن الأمر الغريب أن النبي ( ﷺ ) يبشر بهذه الأمور في ظروف هي أبعد ما تكون توقعا لها.
عَنْ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ قَالَ : شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ( ﷺ ) وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، فَقُلْنَا : أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا أَلَا تَدْعُو لَنَا، فَقَالَ :« قَدْ كَانَ مَن قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ، فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الْأَرْضِ، فَيُجْعَلُ فِيهَا فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ، فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ، فَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللَّهِ لَيَتِمَّنَّ هَذَا الْأَمْرُ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، لَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ » (٣٦٠).
فـ(الدعوة المحمدية في مكة عشر سنوات كلها إعراض من قومه عن الاستماع لقرآنه، وصد لغيرهم عن الإصغاء له، و اضطهاد و تعذيب لتلك الفئة القليلة التي آمنت به، ثم مقاطعة له ولعشيرته ومحاصرتهم مدة غير يسيرة في شِعب من شِعاب مكة، ثم مؤامرات سرية أو علنية على قتله أو نفيه، فهل للمرء أن يلمح في ثنايا هذا الليل الحالك الذي طوله عشرة أعوام، شعاعاً و لو ضئيلاً من الرجاء أن يتنفس صبحه عن الإذن لهؤلاء المظلومين برفع صوتهم و إعلان دعوتهم ؟ و لو شام المصلح تلك البارقة من الأمل في جوانب نفسه من طبيعة دعوته، لا في أفق الحوادث، فهل يتفق له في مثل هذه الظروف أن يربوا في نفسه الأمل حتى يصير حكماً قاطعاً ؟ وهَبْهُ امتلأ رجاء بظهور دعوته في حياته ما دام يتعهدها بنفسه، فمن يتكفل له بعد موته ببقاء هذه الدعوة وحمايتها وسط أمواج المستقبل العاتية ؟ و كيف يجيئه اليقين في ذلك و هو يعلم من عبر الزمان ما يفت في عضد هذا اليقين ؟، فكم من مصلح صرخ بصيحات الإصلاح فما لبثت أصواته أن ذهبت أدراج الرياح، وكم من مدينة قامت في التاريخ ثم عفت ودرست آثارها، وكم من نبي قتل، وكم من كتابٍ فقد أو انتقص أو بدل، وهل كان محمد ( ﷺ ) ممن تستخفه الآمال فيجري مع الخيال ؟ إنه ما كان قبل نبوته يطمع في أن يكون نبياً يوحى إليه ( وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمةً من ربك ( [القصص : ٨٦] و لا كان بعد نبوته يضمن لنفسه أن يبقى هذا الوحي محفوظاً لديه ( و لئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ثم لا تجد لك به علينا و كيلاً إلا رحمة من ربك إن فضله كان عليك كبيراً ( [الإسراء: ٨٦-٨٧ ] ؛ فلابد إذاً من كفيل بهذا الحفظ من خارج نفسه، ومن ذا الذي يملك هذا الضمان على الدهر المتقلب المملوء بالمفاجآت ؟ إلا رب الدهر الذي بيده زمام الحوادث كلها، و الذي قدر مبدأها و منتهاها، و أحاط علماً بمجراها و مرساها، فلولا فضل الله ورحمته الموعود بهما في الآية الآنفة، لما استطاع القرآن أن يقاوم تلك الحروب العنيفة التي أقيمت ولا تزال تقام عليه بين آن وآن. سل التاريخ : كم مرةٍ تنكر الدهر لدول الإسلام، و تسلط الفجار على المسلمين فأثخنوا فيهم القتل، و أكرهوا أمماً منهم على الكفر، و أحرقوا الكتب، و هدموا المساجد ؛ وصنعوا ما كان يكفي القليل منه لضياع هذا القرآن كلاً أو بعضاً كما فعل بالكتب قبله ؛ لولا أن يد العناية تحرسه فبقي في وسط هذه المعامع رافعا راياته وأعلامه، حافظا آياته وأحكامه، بل اسأل صحف الأخبار اليومية كم من القناطير المقنطرة من الذهب والفضة تنفق في كل عام لمحو هذا القرآن، وصد الناس عن الإسلام بالتضليل والبهتان والخداع والإغراء، ثم لا يظفر أهلها من وراء ذلك إلا بما قال الله تعالى :( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ( [الأنفال: ٣٦]، ذلك بأن الذي يمسكه أن يزول هو الذي يُمسك السماوات والأرض أن تزولا، ذلك بأن الله ( هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ( [التوبة: ٣٣]، والله بالغ أمره ومتم نوره فظهر، وسيبقى ظاهرا، لا يضره من خالفه حتى يأتي أمر الله )(٣٦١).
ومثل ذلك ما حصل في حادثة الهجرة وهو مطارد من قريش، وليس معه إلا رجل واحد، والكل يتربص به ليقتله أو يسلمه ليأخذ الجائزة، ثم يقول لسراقة :« كيف بك إذا لبست سواري كسرى » ثم يتحقق هذا الأمر ويلبسهما في زمن عمر بن الخطاب(٣٦٢).
--------------------------------------------------------------------------------
(٣٥٩) انظر كتاب : تثبيت دلائل النبوة، للقاضي عبدالجبار الهمذاني (٢/٣١٤)، حققه د. عبدالكريم عثمان، دار العربية للطباعة والنشر، بيروت، وهو كتاب حافل مليء بالفوائد، لاسيما الأدلة العقلية على نبوة النبي ﷺ ؛ لأنه من مدرسة المعتزلة العقلية.
(٣٦٠) أخرجه البخاري(كتاب المناقب، باب ما لقي النبي ( ﷺ ) وأصحابه بمكة، رقم : ٦٩٤٣).
(٣٦١) النبأ العظيم، ص: ٣٨-٤٧.
(٣٦٢) انظر الإصابة لابن حجر في ترجمة سراقة (٣/٤٢).


الصفحة التالية
Icon