المطلب الخامس: عدم التناقض:
وقد أشار الله تعالى إلى هذا الدليل في قوله سبحانه:
( أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ( [النساء: ٨٢].
قال ابن جرير الطبري -رحمه الله- :( القول في تأويل قوله تعالى: ﴿أفلا يتدبرون القرءان ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا﴾ ؛ يعني جل ثناؤه بقوله: ﴿أفلا يتدبرون القرآن﴾ أفلا يتدبر المبيتون غير الذي تقول لهم يا محمد كتاب الله ؛ فيعلموا حجة الله عليهم في طاعتك واتباع أمرك، وأن الذي أتيتهم به من التنزيل من عند ربهم، لاتساق معانيه وائتلاف أحكامه وتأييد بعضه بعضا بالتصديق، وشهادة بعضه لبعض بالتحقيق ؛ فإن ذلك لو كان من عند غير الله لاختلفت أحكامه وتناقضت معانيه وأبان بعضه عن فساد بعض)(٤٥١).
وفي طيات هذه الآية تحدي، كأنه يقول : تدبر القرآن، وستجده خاليا من التناقضات، ولن تستطيع أن تجد تناقضا واحدا، مما يدلك، أنه من عند الله ؛ إذ لو كان من البشر، لكان فيه اختلاف كثير، وتناقض واضح.
فكتاب ينزل على مدار ثلاث وعشرين سنة منجما مفرقا، على النبي ( ﷺ ) لا تجد فيه أي تناقض، إن هذا لشيء عجاب، قال ابن كثير -رحمه الله- :( يقول تعالى آمرا لهم بتدبر القرآن وناهيا لهم عن الإعراض عنه وعن تفهم معانيه المحكمة وألفاظه البليغة ومخبرا لهم أنه لا اختلاف فيه ولا اضطراب ولا تعارض لأنه تنزيل من حكيم حميد فهو حق من حق ولهذا قال تعالى "أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها" ثم قال "ولو كان من عند غير الله" أي لو كان مفتعلا مختلفا كما يقوله من يقوله من جهلة المشركين والمنافقين في بواطنهم لوجدوا فيه اختلافا أي اضطرابا وتضادا كثيرا أي وهذا سالم من الاختلاف فهو من عند الله )(٤٥٢).
وقال القرطبي -رحمه الله- :( ليس من متكلم يتكلم كلاما كثيرا إلا وجد في كلامه اختلاف كثير ؛ إما في الوصف واللفظ ؛ وإما في جودة المعنى، وإما في التناقض، وإما في الكذب، فأنزل الله عز وجل القرآن وأمرهم بتدبره ؛ لأنهم لا يجدون فيه اختلافا في وصف ولا ردا له في معنى ولا تناقضا ولا كذبا فيما يخبرون به من الغيوب وما يسرون)(٤٥٣).
وبهذا استدل جفري لانغ(٤٥٤) على صدق القرآن(٤٥٥) وأدى إلى إسلامه ؛ فالقرآن لا يتناقض مع نفسه، ولا يتناقض مع السنة، ولا يتناقض مع العلم الحديث، بل على العكس فدائما يأتي العلم التجريبي الحديث بالتدليل على صدق القرآن وما فيه، ولا يخالف الوقائع التاريخية، بل هو منسجم تمام الانسجام معها كلها، مما يدلك أنه ليس من بشر، بل هو من خالق البشر وخالق الكون ومدبر العالم(٤٥٦).
--------------------------------------------------------------------------------
(٤٥١) جامع البيان عن تأويل آي القرآن (٨/٥٦٧)، تحقيق محمود وأحمد ابنا محمد شاكر، دار المعارف، القاهرة، الطبعة الثانية
(٤٥٢) تفسير القرآن العظيم (١/٥٢٩)
(٤٥٣) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (٥/١٨٧).
(٤٥٤) تقدمت ترجمته ص ١٠١.
(٤٥٥) انظر كتابه الصراع من أجل الإيمان، ص: ٦٦.
(٤٥٦) وسيأتي الرد على من ادعى تناقض القرآن في مبحث مستقل.