المطلب الثاني : شبهة أنه زِيدَ(٦٢٠) فيه ونُقِصَ، والرد عليها :
أولاً : في هذا المطلب نعرض للقول بأن أصل القرآن موجود، ولكنه زيد فيه أو نقص، وقد فتح هذا الباب على مصراعيه الرافضة الاثنا عشرية، حيث نقلوا عن أئمتهم أن القرآن محرف وناقص ومبدل، وإنما فعلوا هذا حتى يثبتوا خلافة علي رضي الله عنه وآل بيته؛ فإذا اعترض عليهم معترض بأن هذه الولاية لم تذكر في القرآن، لا تصريحا ولا تلميحا ولا إشارة، كان الجواب : إن القرآن محرف ناقص(٦٢١ ).
وتقول في دائرة المعارف الإسلامية :( القرآن لم يسجل كله عند نزوله، بل كثير من الوحي المتقدم النزول لم يسجل ؛ لأن المسلمين لم يكونوا منتبهين لأهمية ما يتلوه الرسول(، فضاع كثير من القرآن)(٦٢٢).
وتشير دائرة المعارف أيضا إلى سقوط سورتين كاملتين من القرآن، وهما (سورة النورين) و(سورة الولاية )(٦٢٣). آخذين هذا الرأي من مذهب الشيعة الغلاة.
وفيها أيضا :(البعض ينكر الآيات التي يلعن فيها خصوم محمد)(٦٢٤).
وقال رحمانيوف:(إن الخوارج قد ألفت سورة يوسف، بينما زادت الشيعة سورة أخرى)(٦٢٥).
ويقول جولدتسهير(٦٢٦): (لا يوجد كتاب تشريعي اعترفت به طائفة دينية اعترافا عقديا على أنه نص منزل أو موحى به، يقدم نصه في أقدم عصور تداوله، مثل هذه الصورة من الاضطراب وعدم الثبات، كما نجد في النص القرآني)(٦٢٧).
ونفى نولدكه الألماني(٦٢٨) في كتابه (تاريخ القرآن) أن تكون فواتح السور من القرآن، مدعيا أنها رموز لمجموعات الصحف التي كانت عند المسلمين الأولين قبل أن يوجد المصحف العثماني، فمثلا حرف الميم كان رمزا لصحف المغيرة، والهاء لصحف أبي هريرة، والصاد لصحف سعد بن أبي وقاص، والنون عثمان ؛ فهي-كما يزعم- إشارات لملكية الصحف، وقد تركت في مواضعها سهواً، ثم ألحقها طول الزمن بالقرآن فصارت قرآنا (٦٢٩ ).
وقال طه حسين -مقلدا المستشرقين-:(هناك موضوع آخر يجب أن أنبهكم إليه، وهو مسألة هذه الحروف العربية غير المفهومة التي تبتدئ بها بعض السور، مثل ألم، ألر، طس، كهيعص، حم، عسق... إلخ، فهذه كلمات ربما قصد منها التعمية أو التهويل، أو إظهار القرآن في مظهر عميق مخيف، أو هي رموز وضعت للتمييز بين المصاحف المختلفة التي كانت موضوعة عند العرب، فمثلا (كهيعص) رمزاً لمصحف ابن مسعود، (حم عسق) رمزاً لمصحف ابن عباس (طس) رمزاً لمصحف ابن عمر، وهلم جرا، ثم ألحقها مرور الزمن بالقرآن فصارت قرآنا )(٦٣٠).
ويقول نصر أبو زيد :(لم ينج القرآن من عمليات المحو والإثبات)(٦٣١).
ثانيا: الرد على هذه الشبهة:
١- دعوى أن القرآن تبدل كله لها اتصال وثيق بالشبهة التي تليها، ولكنها زادت في المبالغة والسذاجة حتى ادعت بأن القرآن كله قد تغير، مخالفين بذلك الإجماع التاريخي على حفظ القرآن منذ عهد النبي ( ﷺ ) إلى يومنا هذا(٦٣٢)، وإليك بعض النصوص من منصفيهم -لا من كتبنا- على أن القرآن الموجود بين أيدينا هو نفس القرآن الذي أنزل على النبي ( ﷺ )؛ ولم يتغير منه حرف لا زيادة ولا نقصا.
يقول لوبلوا(٦٣٣): (إن القرآن هو اليوم الكتاب الرباني الوحيد الذي ليس فيه أي تغيير يذكر)(٦٣٤).
ويقول موير(٦٣٥) :( إن المصحف الذي جمعه عثمان قد تواتر انتقاله من يد ليد حتى وصل إلينا بدون أي تحريف، ولقد حُفِظَ بعناية شديدة بحيث لم يطرأ عليه أي تغيير يذكر، بل نستطيع
أن نقول : إنه لم يطرأ عليه أي تغيير على الإطلاق في النسخ التي لا حصر لها، والمتداولة في البلاد الإسلامية الواسعة؛ فلم يوجد إلا قرآن واحد لجميع الفرق الإسلامية المتنازعة، وهذا الاستعمال الإجماعي لنفس النص المقبول من الجميع حتى اليوم، يعد أكبر حجة ودليل على صحة النص المنزل الموجود معنا، والذي يرجع إلى الخليفة المكروب عثمان )(٦٣٦).
ويقول بلاشير(٦٣٧) :( إن الفضل بعد الله يعود إلى الخليفة عثمان بن عفان ؛ لإسهامه قبل سنة ٦٥٥م في إبعاد المخاطر الناشئة عن وجود نسخ عديدة من القرآن، وإليه وحده يدين المسلمون بفضل تثبيت نص كتابهم المنزل، على مدى الأجيال القادمة)(٦٣٨).
٢- هذه الشبهة الرد عليها متفرع من الرد على الشبه السابقة، فإن كان المخالف قد أقر بأن هذا القرآن ليس من النبي ( ﷺ ) ولا نقله من غيره، بل هو من الله تعالى ؛ فإن الله قال في هذا الكتاب: ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ( [الحجر: ٩]، فبما أن الله تكفل بحفظه، إذن لا يوجد مجال للطعن في بقائه ؛ لأن هذا تكذيب لله تعالى.
٣-يكفي في الرد على هذه الدعوى العارية عن مستند أن نطالبهم بالدليل، ( قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ( [البقرة:: ١١١].
فالدعاوى إن لم تقم عليها بينات أصحابها أدعياء
٤- نرد عليهم بالواقع ؛ فإن الواقع يُثْبِتُ إن القرآن لم يتغير منه شيء، فالتفاسير القديمة والكتب المؤلفة في الصدر الأول، والآثار المنقولة عن التابعين والصحابة، والأحاديث المرفوعة للنبي ( لم نجد فيها حرفا يغاير ما هو بين أيدينا الآن، بل يذكر فيها القرآن بنصه وحروفه وترتيبه، وكل من قام بمحاولة لتحريفه أو تغييره فُضِحَ وكُشِفَ وباءت حيلُه بالفشل.
٥-أجمع العلماء على أن ما بين دفتي المصحف هو كتاب الله الذي أنزل، وليس فيه نقص ولا زيادة(٦٣٩)، ولم تعتن أمة من الأمم بكتاب كاعتناء أمة الإسلام بكتاب الله (القرآن)، فقد ألفت حوله من الكتب ما لا يحصى كثرة ؛ في تفسيره وضبط حروفه وعلومه، وتفنيد الشبهات حوله، وقراءاته، وتجويده، وإعجازه، وبلاغته، وإعرابه، ورسمه، وأعداد كلماته، وحروفه، وغير ذلك٦٤٠.
٦- من الأدلة على سلامة نقله وحفظه من النقص، أن النبي ( ﷺ ) لم يكتم أي شيء حتى ما كان فيها معاتبة شديدة له ؛ مثل قوله سبحانه: ( وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ... ( [الأحزاب: ٣٧].
عَنْ مَسْرُوقٍ -رحمه الله- قَالَ : كُنْتُ مُتَّكِئًا عِنْدَ عَائِشَةَ، فسَأَلْتُ عَائِشَةَ : هَلْ رَأَى مُحَمَّدٌ ( رَبَّهُ ؟ فَقَالَتْ : سُبْحَانَ اللَّهِ لَقَدْ قُفَّ شَعَرِي لِمَا قُلْتَ ؛ يَا أَبَا عَائِشَةَ ثَلَاثٌ مَنْ تَكَلَّمَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ، فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ، قُلْتُ: مَا هُنَّ ؟ قَالَتْ : مَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا ( رَأَى رَبَّه، فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ قَالَ : وَكُنْتُ مُتَّكِئًا فَجَلَسْتُ، فَقُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَنْظِرِينِي وَلَا تَعْجَلِينِي، أَلَمْ يَقُلْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ :( وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ. وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى ( فَقَالَتْ : أَنَا أَوَّلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ ( ﷺ )، فَقَالَ: « إِنَّمَا هُوَ جِبْرِيلُ لَمْ أَرَهُ عَلَى صُورَتِهِ الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا غَيْرَ هَاتَيْنِ الْمَرَّتَيْنِ، رَأَيْتُهُ مُنْهَبِطًا مِنْ السَّمَاءِ سَادًّا عِظَمُ خَلْقِهِ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ » فَقَالَتْ : أَوَ لَمْ تَسْمَعْ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ :( لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ( أَوَ لَمْ تَسْمَعْ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ :( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (. قَالَتْ : وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ( ﷺ ) كَتَمَ شَيْئًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ، وَاللَّهُ يَقُولُ :( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ( وَلَوْ كَانَ مُحَمَّدٌ ( كَاتِمًا شَيْئًا مِمَّا أُنْزِلَ عَلَيْهِ لَكَتَمَ هَذِهِ الْآيَةَ :( وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ ( قَالَتْ : وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يُخْبِرُ بِمَا يَكُونُ فِي غَدٍ، فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ، الْفِرْيَةَ وَاللَّهُ يَقُولُ ( قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ ( (٦٤١).
وعَنْ أَنَسٍ قَالَ : جَاءَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ يَشْكُو، فَجَعَلَ النَّبِيُّ ( يَقُولُ :« اتَّقِ اللَّهَ وَأَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ ». قَالَ أَنَسٌ : لَوْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ( ﷺ ) كَاتِمًا شَيْئًا لَكَتَمَ هَذِهِ، قَالَ : فَكَانَتْ زَيْنَبُ تَفْخَرُ عَلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ ( تَقُولُ : زَوَّجَكُنَّ أَهَالِيكُنَّ وَزَوَّجَنِي اللَّهُ تَعَالَى مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ )(٦٤٢).
٧-أما كلام جولد تسيهر ؛ فإننا نتساءل هل رأى جولد تسيهر كتب الشرائع السابقة في نصوصها الأصلية حتى تصح المقارنة والحكم؟.
وقد قال هو حين عرض للكلام عن حديث نزول القرآن على سبعة أحرف: (إن التلمود يقول بنزول التوراة بلغات كثيرة في وقت واحد)(٦٤٣).
هذا وقال آرثر جفري(٦٤٤) في تقديمه لكتاب المصاحف لأبي داود: (إن تاريخ التوراة والإنجيل، وصحة نسبتهما وحرفيتهما، أبعد ما يكون عن الصحة والوثوق)(٦٤٥).
٨- وأما كلام طه حسين ( فهي دعوى قد كفانا هو إبطالها لأنه يشك فيها ويردد وبين أمرين متناقضين، ثبوت أحدهما ينفي الآخر ؛فكونها قصد بها التهويل وإظهار القرآن في مظهر عميق مخيف يقتضي أنه نطق بها الرسول وأنها كانت في عهده، وكونها رموزا وضعت لتميز بين المصاحف المختلفة ثم ألحقها مرور الزمن بالقرآن يقتضي أنه لم ينطق بها الرسول ولا كانت في زمنه، ونقض القرآن لا يكون بهذا الشك والاضطراب والترديد بين أمور متناقضة، ولو علم الناقد أن الصحابة والتابعين كانوا يتشددون في تجريد المصحف من كل ما ليس قرآنا حتى أنهم امتنعوا من العجم والشكل وكتابة أسماء السور لاستحيا من أن يقول مثل هذا القول، ولعمري -إذا كان شاكا أو مضطربا -فلم لا يأتي إلا بما هو طعن في القرآن، ولم لم يذكر ولو على سبيل الشك والترديد ما قاله المفسرون من أنها أسماء للسور أو جئ بها هكذا مسرودة ليعلمهم أن القرآن منظوم من هذه الحروف التي ينظمون من كلامهم فهو إذن من جنس ما ينطقون، فليأتوا بمثله إن كانوا صادقي، ذلك لأن مواده ليست أعجمية بل هي من المواد التي ينظمون منها كلامهم وليست غريبة عنهم، فإذا عجزوا بعد فيعلموا أنه ليس من كلام البشر، بل هو من عند خالق القوى والقدر، وأنى لهذا الناقد أن يقول خيرا في الكتاب الكريم ولو على سبيل الشك وهو يريد نقضه وإبطاله )(٦٤٦).
--------------------------------------------------------------------------------
(٦٢٠) وقد ألف الدكتور فضل حسن عباس- الأستاذ المشارك في الجامعة الأردنية، كلية الشريعة- كتابا بعنوان لطائف المنان ورائع البيان في دعوى الزيادة في الق