المبحث الثالث : التعريف بالطاعنين في القرن الرابع عشر الهجري
الطاعنون في كتاب الله هم المشككون فيه، الذين يوردون عليه الشبه والإشكالات والاضطرابات، يريدن بهذا إسقاط قدسية القرآن من قلوب المسلمين ؛ لأن القرآن هو قطب رحى المسلمين الذي عليه يدورون، وهو العروة الوثقى التي بها يتمسكون، وهو المورد العذب الذي إليه يردون ومنه يصدرون. وهو أساس الإسلام وركن الشريعة الركين، الذي إذا سقط سقط كل البناء، وتهدم الصرح، وقوض الإسلام، ولم تبق للمسلمين باقية ولا قوة.
وقد كثر الطاعنون في كل قرن، ولكن هذا القرن تميز بنوعين من الطاعنين، وهم :
الصنف الأول : المستشرقون.
الصنف الثاني : العلمانيون، أو تلاميذ المستشرقين، أو العقلانيون... وفيما يلى نبذة مختصرة عن كل منهما :
أولا : المستشرقون :
الاستشراق(Orientalism) : تعبير يدل على الاتجاه نحو الشرق، ويطلق على كل ما يبحث في أمور الشرقيين وثقافتهم وتاريخهم، ويقصد به ذلك التيار الفكري الذي يتمثل في إجراء الدراسات المختلفة عن الشرق، والتي تشمل حضارته، وآدابه، ولغاته، وثقافته(٤٤).
واستُغل في أكثر مراحله لخدمة الاستعمار، وتشويه تعاليم الدين.
ونشأ هذا الفكر لما عجز النصارى عن مواجهة المسلمين بالسيف، فرأوا أن أفضل طريقة لمحاربة المسلمين هو الغزو الفكري.
ولهم طرق كثيرة للوصول إلى أهدافهم منها : تأليف الكتب، وإصدار المجلات، وإلقاء المحاضرات في المنتديات عن الإسلام، والقرآن، والسنة، وتاريخ المسلمين، وإنشاء الجمعيات والمراكز التي تخدم أغراضهم، وعقد المؤتمرات السرية والعلنية، وإنشاء موسوعة دائرة المعارف الإسلامية وغيرها، وإرسال البعثات، وإنشاء جامعات وكليات غربية في بلاد الشرق، وغير ذلك من الوسائل، ولها آثار أكثرها سلبي وبعضها إيجابي.
فمن الآثار السلبية :
١ - الطعن في القرآن والسنة، وهما مصدر التشريع في الدين.
٢ - محاولة إحياء الفرق المنحرفة الميتة، أو أفكار بعض المنحرفين كالحلاج وغيره.
٣ - صد الناس عن الإسلام بتشويه تعاليمه كما فعلت الموسوعة البريطانية.
٤ - إخراج جيل من أبناء المسلمين منسلخ عن دينه بل محارب له.
٥ - التشكيك في الثوابت ؛ كالجهاد، والحجاب، والميراث، والعقوبات الشرعية ؛ كرجم الزاني، وقطع يد السارق، وقتل المرتد، وغير ذلك من الثوابت.
٦ - إخراج المرأة من جلبابها بتصوير الحجاب بأنه خرقة لا قيمة لها، ومحاولة مساواة المرأة للرجل في كل شيء، حتى في جواز تعدد الأزواج.
وأما الآثار الإيجابية فمنها :
١ -شهادة المنصفين منهم لصدق الإسلام وإعجاز القرآن، حتى دفع الكثير منهم لإعلان إسلامه.
٢ - إخراج بعض الكنوز الإسلامية التي كانت مخطوطة بتحقيقها وطبعها.
٣ - عمل المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي.
ودوافع الاستشراق كثيرة ترجع إلى ثلاثة دوافع : استعماري، وديني، وعلمي(٤٥).
ثانيا : العلمانيون : ونقصد بهم تلاميذ أولئك المستشرقين ؛ الذين رضعوا منهم أفكارهم، وطعونهم في كتاب الله، ومع هذا يدّعون الإسلام، ويتكلمون باسمه، ويزعمون أنهم بهذا ما يريدون إلا الإصلاح (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ(١١)أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لَا يَشْعُرُونَ( [البقرة : ١١، ١٢]. وينسبون أنفسهم للعلم، فيقولون : نحن علمانيون. تلبيسا على عامة الناس.
وخطر هؤلاء أشد(٤٦) ؛ لأنهم باسم الإسلام يطعنون في الإسلام، وبزعم الدفاع عنه يحاربونه، وأسماؤهم كأسمائنا، وهم أبناء جلدتنا، فتلبيسهم على عامة الناس، بل على بعض الخاصة شديد، لذلك كان الرد على هؤلاء، وكشف أباطيلهم وتلبيساتهم من أعظم الواجبات، وآكد الفرائض، حتى تحذر الأمة منهم، وتسلم من شرهم ؛ ففي الصحيحين عن حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ قال : كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ ( ﷺ ) عَنِ الْخَيْرِ وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنْ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي، فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ، فَجَاءَنَا اللَّهُ بِهَذَا الْخَيْرِ، فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ ؟ قَالَ :« نعَمْ. » قُلْتُ : وَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ ؟ قَالَ :« نَعَمْ وَفِيهِ دَخَنٌ. » قُلْتُ : وَمَا دَخَنُهُ ؟ قَالَ :« قَوْمٌ يَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِي، تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ ». قُلْتُ : فَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ ؟ قَالَ :« نَعَمْ، دُعَاةٌ إِلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا ». قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا. فَقَالَ :« هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا ». قُلْتُ : فَمَا تَأْمُرُنِي إِنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ ؟ قَالَ :« تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ »، قُلْتُ : فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلَا إِمَامٌ. قَالَ :« فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا، وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ »(٤٧).
وهناك نوع ثالث ولكن لا نستطيع أن نعدهم من الطاعنين، وإن كانوا قد عملوا أعمالا-سواء عن قصد أو عن غير قصد- فتحت الباب للطاعنين في القرآن (٤٨) ؛ من تأويل غير مقبول في تفسير القرآن، أو جواب عن إشكال فيه تنازل وتسليم مبطن به، أو تحريف معاني كثير من الثوابت إلى معانٍ تساير العصر -بزعمهم- أو إلغائها بالكلية، أو تكلف الاستدلال بآية على ما لا تدل عليه من قريب أو بعيد (٤٩).
وهم بعض من ينتسب للمدرسة العقلية الحديثة التي تقدم العقل على النقل كالمعتزلة القديمة ؛ يقول أستاذنا الدكتور محمد بلتاجي في مقدمة " كتابه مدخل إلى علم التفسير " : وأنه يتضمن عدة ( مباحث في عرض وتقويم بعض الدراسات المعاصرة التي تتناول النص القرآني من منطلقات ومناهج باطلة تحاول أن ترتدي ثوب التجديد والتنوير، وإنما هي - في حقيقتها وجوهرها وأهدافها-نفس المزاعم التي طُعن بها في القرآن الكريم منذ أوحى الله تعالى به )(٥٠).
وقال حفظه الله : وقد ظهر في عصرنا الحاضر أفراد استخدموا بعض مصطلحات المعتزلة ومقولاتهم، وتمسحوا بهم لكنهم أمعنوا السير في الطريق، ولم يقفوا عند الحد الذي توقف عنده قدماء المعتزلة، بل تجاوزوه تجاوزا خطيرا، زعموا فيه أن الفهم الحرفي للعرش والكرسي والملائكة والجن والقلم واللوح والسحر وغيرها، يقدم تصورات ذات طابع أسطوري -تجاوزه التاريخ- نبع من الواقع الثقافي للجماعة في عصر نزول هذه الآيات المتضمنة لهذه النصوص، كما زعموا أن كثيرا من الأحكام القرآنية أصبحت تاريخية، حيث تجاوزتها أوضاع العصر وثقافته، وظروفه ولم تعد صالحة للتطبيق فيه، وتمسحوا في ذلك ببعض اجتهادات عمر بن الخطاب رضي الله عنه(٥١).
--------------------------------------------------------------------------------
(٤٤) انظر : الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة (٢/٦٩٧)، بإشراف الندوة العالمية للشباب : الإسلامي، مراجعة د. مانع بن حماد الجهني، الطبعة الثالثة، ١٤١٨، الناشر : دار الندوة العالمية للطباعة والنشر والتوزيع، الرياض، وأجنحة المكر الثلاثة وخوافيها، لعبد الرحمن حبنكة، دمشق، دار القلم، الطبعة الخامسة، ١٩٨٦م.
- الاستشراق والتبشير، قراءة تاريخية موجزة، د. محمد السيد الجليند، دار النهضة بحرم جامعة القاهرة.
- رؤية إسلامية للاستشراق، أحمد غراب، من سلسلة إصدارات المنتدى الإسلامي.
- الاستشراق والمستشرقون. د. مصطفى السباعي، دار السلام، القاهرة.
- المستشرقون والإسلام. د. محمد قطب، مكتبة وهبة، القاهرة.
- صور استشراقية. د. عبد الجليل شبلي، دار الشرق، القاهرة.
- المستشرقون. د. عابد بن محمد السفيانى. دار الفرقان. القاهرة.
(٤٥) انظر : المصادر السابقة و الموجز في الأديان و المذاهب المعاصرة للعقل و القفاري ( ص : ١٧٤ - ١٨٥ )، الطبعة الأولى، ١٤١٣، دار الصميعي، الرياض.
(٤٦) انظر : كتاب : نقض مطاعن في القرآن الكريم، لمحمد عرفة، (ص : ٨٢).
(٤٧) متفق عليه :( البخاري : كتاب المناقب، باب : علامات النبوة في الإسلام، رقم : ٣٤١١، ومسلم : كتاب الإمارة، باب : وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند الفتن، رقم : ١٨٤٧).
(٤٨) انظر : اتجاهات التجديد فى تفسير القرآن الكريم، لاستاذنا الدكتور شريف، ص : ٧٣٧.
(٤٩)مثل إنكار المعجزات كلها ما عدا القرآن، وإنكار أشراط الساعة الصغرى وبعض الكبرى مثل نزول عيسى والمهدي ويأجوج مأجوج والدابة، وإنكار بعض الغيبيات مثل عالم الجن والملائكة، وإنكار تعدد الزوجات والحجاب وملك اليمين وإنكار السحر، وتأويل الطير الأبابيل بالجراثيم، إباحة بعض أنواع الربا ؛ والزعم أن القرآن يدل على جواز تحضير الأرواح، وغير ذلك من سلسلة الأخطاء التي فتحها على مصراعيها تقديم العقل على النقل والانبهار بالعالم الغربي ومحاولة مسايرته. انظر : في بيان أخطاء هؤلاء والرد عليهم :
اتجاهات التفسير في العصر الراهن للدكتور عبد المجيد عبدالسلام المحتسب، دار البيارق، الأردن، الطبعة الثالثة، ١٩٨٢.
منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير، للدكتور فهد الرومي، مكتبة الرشد، الرياض، الطبعة الخامسة، ١٤٢٢.
التفسير ومناهجه لدى مدرسة الإمام محمد عبده للدكتور محمود بسيوني فوده، مطبعة الأمانة، القاهرة.
العصرانيون بين مزاعم التجديد وميادين التغريب، لمحمد حامد الناصر، مكتبة الكوثر، الرياض، الطبعة الأولى، ١٩٩٦. اتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر، أ. د. فهد الرومي، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثالثة، ١٩٩٧.
اتجاه التفسير فى العصر الحديث، للشيخ مصطفى محمد الطير، مطبعة مجمع البحوث الإسلامية بالقاهرة ١٩٧٥.
اتجاهات التجديد فى تفسير القرآن الكريم فى مصر، أ. د. محمد ابراهيم شريف، دار التراث القاهرة، الطبعة الأولى، ١٩٨٢.
(٥٠) مدخل إلى علم التفسير، للدكتور محمد بلتاجي، ص : ١، مكتبة الشباب : ، مصر، ١٩٩٨.
(٥١) المصدر السابق ص : ١٥٥.