والصفح عن المسيء، والإذعان للحق وإن صعب وشق، وذلك كله الداعي إليه هذا الكتاب الذي هو روح جسد هذا الدين المعبر عما دعا إليه من محاسن الأعمال، وشرائف الخلال بالصراط المستقيم، وإلى ذلك لوح آخر آخر السورة الماضية ﴿حتى يتبين لهم أنه الحق﴾ ﴿ألا إنه بكل شيء محيط﴾ وصرح ما في هذه من قوله :﴿أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه إلا المودة في القربى﴾ ﴿استجيبوا لربكم﴾ ﴿نهدي به من نشاء من عبادنا﴾ ﴿وإنك لتهدي إلى صارط مستقيم﴾ ﴿ألا إلى الله تصير الأمور﴾ وتسميتها بالشورى واضح المطابقة لذلك لما في الانتهاء وكذلك بالأحرف المتقطعة فإنها جامعة للمخارج الثلاثة : الحلق والشفة واللسان، وكذا جمعها لصنفي المنقطوطة والعاطلة، ووصفي المجهورة والمهموسة، وهي واسطة جامعة بين حروف أم الكتاب الذكر الأول، وحروف الرقآن العظيم، وهذا المقصود هو غاية المقصود من أختها سورة مريم الموافقة لها في الابتداء بالتساوي في عدد الحروف المقطعة، وفي الانتهاء من حيث أن من اختص بمصير الأمور، كان المختص بالقدرة على إهلاك القرون، وذلك لأن مقصودها اتصافه تعالى بشمول الرحمة بإفاضة جميع النعم على جميع خلقه، وغاية هذه الاجتماع على الدين، ولما توافقتا في المقصود في الابتداء والانتهاء، واختصت الشورى بأن حروفها اثنان، دل سبحانه بذلك أرباب البصائر على أنه إشارة إلى أن الدين قسمان : أصول وفروع، دلت مريم على الأصول ﴿ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه تمترون﴾ [مريم : ٣٤]، وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم، ﴿هل تعلم له سميا﴾ [مريم : ٦٥] والشورى على مجموع الدين أصولاً وفروعاً ﴿شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك﴾ الآية، هذا موافقة البداية، وأما موافقة النهاية فهو أنهما ختمتا بكلمتين : أول كل منهما آخر الأخرى وآخر كل أول الأخرى وإيذاناً بأن السورتين دائرة واحدة محيطة بالدين متصلة لا انفصام لها، وذلك أن آخر مريم أول الشورى وآخر الشورى أو مريم ﴿فإنما يسرناه بلسانك﴾، الآية ﴿هو كذلك يوحى إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم﴾ ﴿وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا﴾ ﴿ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان﴾ إلى آخرها هو ﴿ذكر رحمة ربك عبده زكريا﴾ - إلى آخر القصة في الدعاء بارث الحكمة والنبوة الذي روحه الوحي والله الهادي، وكذا تسميتها ببعضها بدلالة الجزء على الكل (١)
هذه السورة تعالج قضية العقيدة كسائر السور المكية ولكنها تركز بصفة خاصة على حقيقة الوحي والرسالة، حتى ليصح أن يقال : إنها هي المحور الرئيسي الذي ترتبط به السورة كلها وتأتي سائر الموضوعات فيها تبعا لتلك الحقيقة الرئيسية فيها.