التوحيد باقية في جمع من عقبه وتوعد المشركين وأنذرهم بعذاب الآخرة بعد البعث الذي كان إنكارهم وقوعه من مغذيات كفرهم وإعراضهم لاعتقادهم أنهم في مأمن بعد الموت.
وقد رتبت هذه الأغراض وتفاريعها على نسخ بديع وأسلوب رائع في التقديم والتأخير والأصالة والاستطراد على حسب دواعي المناسبات التي اقتضتها البلاغة، وتجديد نشاط السامع لقبول ما يلقى إليه. وتخلل في خلاله من الحجج والأمثال والمثل والقوارع والترغيب والترهيب، شيء عجيب، مع دحض شبه المعاندين بأفانين الإقناع بانحطاط ملة كفرهم وعسف معوج سلوكهم. وأدمج في خلال ذلك ما في دلائل الوحدانية من النعم على الناس والإنذار والتبشير.
وقد جرت آيات هذه السورة على أسلوب نسبة الكلام إلى الله تعالى عدا ما قامت القرينة على الإسناد إلى غيره. (١)
مناسبة السورة لما قبلها
جاء فى أول سورة الشورى :« حم، عسق كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ».. وقد قلنا فى تأويل هذه الآية : إن الوحى المشار إليه هنا، هو الوحى بتلك الحروف المقطعة، التي هى من كلام اللّه سبحانه وتعالى، لنبيه الكريم، من غير وساطة ملك، وإن هذا الوحى هو أشبه بالرمز والإشارة، بحيث لا يفهم ماوراء الرمز والإشارة إلا الرسول - ﷺ -..
ثم جاء قوله تعالى : فى أول سورة الزخرف هذه :« حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ » فكان فى هذا إشارة إلى ما يوحى إلى النبي ـ - ﷺ - ـ من آيات اللّه وكلماته، عن طريق الرسول السماوي، جبريل عليه السلام، مع ما تلقاه وحيا مباشرا من ربه.. وهذا الوحى به عن هذا الطريق، ـ طريق الرسول السماوي ـ هو الذي يشارك أهل اللسان العربي، النبىّ ـ - ﷺ - ـ فى فهم دلالات ألفاظه، ومعانى آياته، لأنه بلسانهم الذي يتكلمون به، وبألفاظهم التي يتعاملون بها.. فليس إذن كلّ القرآن من هذا الوحى الرمزى، الذي اختصّ النبي ـ صلوات اللّه وسلامه عليه ـ بفهمه والعمل به، دون أن يطالب غيره من المؤمنين بالبحث عن دلالته، وإن كانوا مطالبين بالتعبد بتلاوته.
ومن جهة أخرى، فإنه قد جاء فى ختام سورة الشورى :« وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ، وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ ».. ثم كان قوله تعالى فى مفتتح سورة الزخرف :« إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا