ومن هذا الإيقاع العنيف بمشهد العذاب ومشهد البطشة الكبرى والانتقام ينتقل بهم إلى مصرع فرعون وملئه يوم جاءهم رسول كريم، وناداهم :«أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ. وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ»..
فأبوا أن يسمعوا حتى يئس منهم الرسول. ثم كان مصرعهم في هوان بعد الاستعلاء والاستكبار :«كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ. كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ. فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ»..
وفي غمرة هذا المشهد الموحي يعود إلى الحديث عن تكذيبهم بالآخرة، وقولهم :«إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ، فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» ليذكرهم بمصرع قوم تبع، وما هم بخير منهم ليذهبوا ناجين من مثل مصيرهم الأليم.
ويربط بين البعث، وحكمة اللّه في خلق السماوات والأرض، «وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ. ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ. وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ»..
ثم يحدثهم عن يوم الفصل :«مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ». وهنا يعرض مشهدا عنيفا للعذاب بشجرة الزقوم، وعتل الأثيم، وأخذه إلى سواء الجحيم، يصب من فوق رأسه الحميم. مع التبكيت والترذيل :«ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ. إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ»..
وإلى جواره مشهد النعيم عميقا في المتعة عمق مشهد العذاب في الشدة. تمشيا مع ظلال السورة العميقة وإيقاعها الشديد..
وتختم السورة بالإشارة إلى القرآن كما بدأت :«فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ».. وبالتهديد الملفوف العنيف :«فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ».
إنها سورة تهجم على القلب البشري من مطلعها إلى ختامها، في إيقاع سريع متواصل. تهجم عليه بإيقاعها كما تهجم عليه بصورها وظلالها المتنوعة المتحدة في سمة العنف والتتابع. وتطوف به في عوالم شتى بين السماء والأرض، والدنيا والآخرة، والجحيم والجنة، والماضي والحاضر، والغيب والشهادة، والموت والحياة، وسنن الخلق ونواميس الوجود.. فهي - على قصرها نسيبا - رحلة ضخمة في عالم الغيب وعالم الشهود.. (١)
خلاصة ما تضمنته هذه السورة الكريمة من المقاصد
(١) بيان بدء نزول القرآن.