ولما علمت قريش بهذا أرسلت سهيل بن عمرو لعقد الصلح، فلما رآه رسول اللَّه - ﷺ - مقبلا قال : أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل، وقال : اكتب بيننا وبينكم كتابا. فدعا الكاتب علي بن أبي طالب، وبدأ الاتفاق على بنود المعاهدة، بعد أن رفض سهيل كتابة «بسم اللَّه الرحمن الرحيم»، وكتب «باسمك اللهم» ورفض أيضا وصف محمد بالرسالة، فكتب :«محمد بن عبد اللَّه».
وتم الصلح على أن يكف الفريقان عن الحرب عشر سنين يأمن فيهن الناس، دون قتال ولا اعتداء، على أنه من أتى محمدا من قريش بغير إذن وليه، رده عليهم، ومن جاء قريشا من أصحاب محمد - ﷺ - لم يردوه عليه، وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد - ﷺ - وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه.
فسارعت خزاعة، فدخلت في عقد محمد - ﷺ - وحالفته، وتواثبت بنو بكر، فدخلوا في عهد قريش وعقدهم.
وعلى المسلمين الرجوع عن مكة هذا العام، وإذا كان العام القادم خرجت قريش من مكة، ودخلها المسلمون ثلاثة أيام، معهم سلاح الراكب، السيوف في القرب.
وقد اعترض بعض كبار المسلمين مثل عمر بن الخطاب على الصلح، لعدم تكافؤ شروطه، وإجحافه بالمسلمين، ولكنه كان في الحقيقة نصرا كبيرا، لأن قريشا اعترفوا بمكانة المسلمين، وتمت الهدنة التي استراح فيها المسلمون عن الحروب والمعارك التي شغلتهم وأضعفتهم، وتمكن المسلمون من القيام بدعوة الإسلام في ظل الأمن والسلام، ودخل في الإسلام كثير من العرب.
فكان ذلك فتحا مبينا، أو تمهيدا لفتح مكة، قال الزهري :«فما فتح في الإسلام فتح قبله كان أعظم منه..» فقد كان عدد المسلمين وقت الصلح ألفا وخمس مائة أو أربع مائة، ثم صاروا عام فتح مكة بعد الصلح بسنتين عشرة آلاف، منهم خالد بن الوليد وعمرو بن العاص. وقال ابن مسعود وجابر والبراء رضي اللَّه عنهم : إنكم تعدون الفتح فتح مكة، ونحن نعد الفتح صلح الحديبية.
وبعد أن نحر النبي - ﷺ - هديه حيث أحصر ورجع، وبعد انصرافه نزل عليه ليلا وهو في الطريق بين مكة والمدينة هذه السورة.
روى أحمد وأبو داود والنسائي وابن جرير عن عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه يقول : لما أقبلنا من الحديبية عرّسنا فنمنا، فلم نستيقظ إلا والشمس قد طلعت، فاستيقظنا، ورسول اللَّه - ﷺ - نائم، فقلنا : أيقظوه، فاستيقظ رسول اللَّه - ﷺ -، فقال :«افعلوا ما كنتم تفعلون، وكذلك يفعل من نام أو نسي»