وظاهر من سياق السورة - إلى جانب عمومية الدعوة الدائمة إلى تلك الحقيقة - أنها كانت تعالج كذلك حالة واقعة في الجماعة الإسلامية عند نزول هذه السورة في المجتمع المدني في فترة تمتد من العام الرابع الهجري إلى ما بعد فتح مكة.
فإلى جانب السابقين من المهاجرين والأنصار، الذين ضربوا أروع مثال عرفته البشرية، في تحقيق حقيقة الإيمان في نفوسهم، وفي البذل والتضحية بأرواحهم وأموالهم، في خلوص نادر، وتجرد كامل، وانطلاق من أوهاق الأرض وجوانب الغريزة ومعوقات الطريق إلى اللّه...
إلى جانب هذه الفئة الممتازة الفذة، كانت هناك - في الجماعة الإسلامية - فئة أخرى ليست في هذا المستوي الإيماني الخالص الرفيع - وبخاصة بعد الفتح عند ما ظهر الإسلام، ودخل فيه الناس أفواجا، وكان من بينهم من لم يدركوا بعد حقيقة الإيمان الكبيرة، ولم يعيشوا بها ولها كما عاشت تلك الفئة السابقة الخالصة المخلصة للّه.
هؤلاء المسلمون من الفئة الأخرى كان يصعب عليهم البذل في سبيل اللّه وتشق عليهم تكاليف العقيدة في النفس والمال وتزدهيهم قيم الحياة الدنيا وزينتها فلا يستطيعون الخلاص من دعائها وإغرائها.
وهؤلاء - بصفة خاصة - هم الذين تهتف بهم هذه السورة تلك الهتافات الموحية التي أسلفنا نماذج منها، لتخلص أرواحهم من تلك الأوهاق والجواذب، وترفعها إلى مستوى الحقيقة الإيمانية الكبرى، التي تصغر معها كل قيم الأرض، وتذوب في حرارتها كل عوائقها! كذلك كانت هنالك طائفة أخرى - غير هؤلاء وأولئك - هي طائفة المنافقين، مختلطة غير متميزة.
وبخاصة حين ظهرت غلبة الإسلام، واضطر المنافقون إلى التخفي والانزواء مع بقاء قلوبهم مشوبة غير خالصة ولا مخلصة يتربصون الفرص وتجرفهم الفتن. وهؤلاء تصور السورة مصيرهم يوم يميزون ويعزلون عن المؤمنين :«يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ. بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها. ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا : انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ. قِيلَ : ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً. فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ، يُنادُونَهُمْ : أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ؟ قالُوا بَلى ! وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ، حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ، وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ. فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا، مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ. وَبِئْسَ الْمَصِيرُ»..
وهذا إلى جانب من بقي في الجزيرة من أهل الكتاب من اليهود والنصارى. والسورة تشير إلى شيء من أحوالهم ومواقفهم السابقة والحاضرة في ذلك الأوان كالإشارة السابقة إلى قسوة قلوبهم عند تحذير الذين آمنوا أن يكونوا «كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ».. وهي إشارة إلى