أولئك هم الناس يتفرقون عن رسول الله - ﷺ - ليلة الأحزاب إلا اثني عشر رجلا فيخاطب عليه الصلاة والسلام الصحابي الجليل حذيفة قائلا: "قم فانطلق إلى عسكر الأحزاب" فيجيبه حذيفة: والذي بعثك بالحق ما قمت لك إلا حياء.. من البردّ. فأنزل الله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا﴾١.
ونجد في المقابل أن الآيات النازلة في غزوة تبوك إنما كانت في شدة الحر، وأن رجلا من المنافقين قال يومئذ: لا تنفروا في الحر، فأنزل الله: ﴿قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا﴾٢.
وإذا كان أكثر القرآن نزل في الحضر فإن تنقل الرسول - ﷺ - في سبيل الدعوة جعله يتلقى الوحي أحيانا في بعض أسفاره، تثبيتا لفؤاده، وتأييدا لجهاده، وكثيرا ما يعبر الرواة عن هذا بمثل قولهم: نزلت الآية أو الآيات على النبي - ﷺ - في "مسير" له. ويغلب عليهم تعيين هذا المسير، وتحديد السفر ومكانه وزمانه: وفي الصحيح عن عمر أن قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾٣ نزل عشية عرفة يوم الجمعة عام حجة الوداع، وفي "دلائل" البيهقي أن خاتمة سورة النحل نزلت بأحد والنبي - ﷺ - واقف على حمزة حين استشهد٤.
ولقد كانت حياة الرسول - ﷺ - سلسلة من الجهاد المتواصل، فكثر نزول الوحي عليه في مغازيه: ففي بدر عقب الواقعة نزل أول الأنفال١، وفي عمرة الحديبية نزل قوله تعالى: ﴿وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى﴾٢، وفي تبوك نزل قوله تعالى: ﴿وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا﴾٣. وقد تتبع السيوطي عددا من الأمثلة الأخرى تراجع في موضعها من "الإتقان"٤.
وليلة الإسراء والمعراج ليست إلا ليلة في حساب الزمان، ولكنها جزء من الأزل البعيد العميق في علم الله، فمن القرآن آيات نزلت في تلك الليلة القدسية، ولئن صح أن قوله تعالى: ﴿وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ﴾٥ نزل ببيت المقدس عندما أسرى الله بعبده ليلا٦، فإن الآيتين من آخر سورة البقرة نزلتا -كما يقول ابن العربي: "في الفضاء بين السماء والأرض"٧ حين رأى محمد من آيات ربه الكبرى ساعة المعراج.
وهذا الاستقصاء في تحري ما عسى أن يبدو لبعضهم غير ذي بال لم يكن له في نفوس الرواة والعلماء إلا تفسير واحد: إنه صدق الرواية وإمكان الثقة بها إلى أبعد حد فيما يتعلق بتحديد المكي والمدني في كتاب الله.
وعلى هذا الأساس من الدقة والاستقصاء فرق العلماء بين ما يشبه تنزيل المدينة في السور المكية وما يشبه تنزيل مكة في السور المدنية١، وغرضهم من التعبير، "بالتشبيه" واضح، فإنهم يلاحظون الطابع العام لكل