ذلك المعنى الذي تتمحض السورة لإلقائه في الحس، يتكفل أسلوبها وإيقاعها ومشاهدها وصورها وظلالها بإلقائه وتقريره وتعميقه بشكل مؤثر حي عجيب :
إن أسلوب السورة يحاصر الحس بالمشاهد الحية، المتناهية الحيوية، بحيث لا يملك منها فكاكا، ولا يتصور إلا أنها حية واقعة حاضرة، تطالعه بحيويتها وقوتها وفاعليتها بصورة عجيبة! فهذه مصارع ثمود وعاد وفرعون وقرى لوط (الْمُؤْتَفِكاتُ) حاضرة شاخصة، والهول المروع يجتاح مشاهدها لا فكاك للحس منها. وهذا مشهد الطوفان وبقايا البشرية محمولة في الجارية مرسوما في آيتين اثنتين سريعتين..
ومن ذا الذي يقرأ :«وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ. سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً. فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ؟».. ولا يتمثل لحسه منظر العاصفة المزمجرة المحطمة المدمرة. سبع ليال وثمانية أيام. ومشهد القوم بعدها صرعى مجدلين «كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ!».
وهو مشهد حي ماثل للعين، ماثل للقلب، ماثل للخيال! وكذلك سائر مشاهد الأخذ الشديد العنيف في السورة.
ثم هذه مشاهد النهاية المروعة لهذا الكون. هذه هي تخايل للحس، وتقرقع حوله، وتغمره بالرعب والهول والكآبة. ومن ذا الذي يسمع :«وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً».. ولا يسمع حسه القرقعة بعد ما ترى عينه الرفعة ثم الدكة!! ومن الذي يسمع :«وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ. وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها»..
ولا يتمثل خاطره هذه النهاية الحزينة، وهذا المشهد المفجع للسماء الجميلة المتينة؟! ثم من الذي لا يغمر حسه الجلال والهول وهو يسمع :«وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ. يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ»..
ومشهد الناجي الآخذ كتابه بيمينه والدنيا لا تسعه من الفرحة، وهو يدعو الخلائق كلها لتقرأ كتابه في رنة الفرح والغبطة :«هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ. إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ»! ومشهد الهالك الآخذ كتابه بشماله. والحسرة تئن في كلماته ونبراته وإيقاعاته :«يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ. وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ. يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ. ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ، هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ».
ومن ذا الذي لا يرتعش حسه، وهو يسمع ذلك القضاء الرهيب :«خُذُوهُ، فَغُلُّوهُ، ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ، ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ...» إلخ.. وهو يشهد كيف يتسابق المأمورون إلى تنفيذ الأمر الرهيب الجليل في ذلك البائس الحسير! وحاله هناك :«فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ، وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ. لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ».


الصفحة التالية
Icon