وهذا كله يستحق - بدون تردد - كل ما يبذله المؤمنون من جهود مضنية، ومن تضحيات نبيلة، لإقرار حقيقة الإيمان باللّه في الأرض. وإقامة قلوب تنطوي على قبس من نور اللّه، وتتصل بروح اللّه. وإقامة حياة إنسانية يتمثل فيها منهج اللّه للحياة. وترتفع فيها تصورات البشر وأخلاقهم، كما يرتفع فيها واقع حياتهم إلى ذلك المستوي الرفيع، الذي شهدته البشرية واقعا في فترة من فترات التاريخ.
وستعرض البشرية كما أعرضت عن دعوة نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد وإخوانهم الكرام. وستذهب مع القيادات الضالة المضلة الممعنة في الضلال. وستعذب الدعاة إلى الحق أنواعا مختلفة من العذاب، وتنكل بهم ألوانا شتى من النكال. كما ألقت إبراهيم في النار، ونشرت غيره بالمنشار، وسخرت واستهزأت بالرسل والأنبياء على مدار التاريخ.
ولكن الدعوة إلى اللّه لا بد أن تمضي في طريقها كما أراد اللّه. لأن الحصيلة تستحق الجهود المضنية والتضحيات النبيلة، ولو صغرت فانحصرت في قلب واحد ينطوي على قبس من نور اللّه، ويتصل بروح اللّه! إن هذا الموكب المتصل من الرسل والرسالات من عهد نوح - عليه السلام - إلى عهد محمد - عليه أزكى السلام - لينبئ عن استقرار إرادة اللّه على اطراد الدعوة إلى حقيقة الإيمان الكبيرة، وعلى قيمة هذه الدعوة وقيمة الحصيلة. وأقل نسبة لهذه الحصيلة هي أن تستقر حقيقة الإيمان في قلوب الدعاة أنفسهم حتى يلاقوا الموت وما هو أشد من الموت في سبيلها ولا ينكصون عنها. وبهذا يرتفعون على الأرض كلها وينطلقون من جواذبها، ويتحررون من ربقتها. وهذا وحده كسب كبير، أكبر من الجهد المرير. كسب للدعاة. وكسب للإنسانية التي تشرف بهذا الصنف منها وتكرم. وتستحق أن يسجد اللّه الملائكة لهذا الكائن، الذي يفسد في الأرض ويسفك الدماء. ولكنه يتهيأ - بجهده هو ومحاولته وتضحيته - لاستقبال قبس من نور اللّه. كما يتهيأ لأن ينهض - وهو الضعيف العاجز - بتحقيق قدر اللّه في الأرض، وتحقيق منهجه في الحياة. ويبلغ من الطلاقة والتحرر الروحي أن يضحي بالحياة، ويحتمل من المشقة ما هو أكبر من ضياع الحياة، لينجو بعقيدته وينهض بواجبه في محاولة إقرارها في حياة الآخرين، وتحقيق السعادة لهم والتحرر والارتفاع. وحين يتحقق لروح الإنسان هذا القدر من التحرر والانطلاق، يهون الجهد، وتهون المشقة، وتهون التضحية، ويتوارى هذا كله، لتبرز تلك الحصيلة الضخمة التي ترجح الأرض والسماء في ميزان اللّه... (١)
مقاصد هذه السورة
اشتملت هذه السورة على مقصدين :