وتعجبهم من الإصابة برجوم الشهب المانعة من استراق السمع، وفي المراد من هذا المنع والتخلص من ذلك إلى ما أوحى الله إلى رسوله - ﷺ - من في شأن القحط الذي أصاب المشركين لشركهم ولمنعهم مساجد الله، وإنذارهم بأنهم سيندمون على تألبهم على النبي - ﷺ - ومحاولتهم منهم العدول عن الطعن في دينهم. (١)
مناسبتها لما قبلها
تكشف سورة الجن فى صورة عملية، عما فى الإنسان من جانبى الخير والشر، وأنه حين تنتكس طبيعته، ويغتال جانب الشر فيه جانب الخير، يتحول إلى شيطان رجيم، تعوذ منه الشياطين، أو تتلمذ عليه! وهذا الإنسان الشيطاني يبدو على أتم صورته المنكوسة تلك، فى قوم « نوح » كما يبدو هذا الإنسان على صورة مجسدة فى كثير من مشركى قريش، كأبى جهل، والوليد بن عقبة، وعقبة بن أبى معيط، وغيرهم من شياطين قريش، الذين تصدوا للدعوة الإسلامية، وكادوا لرسول اللّه وللمسلمين أعظم الكيد، فلم يدعوا وسيلة يتوسلون بها إلى أذى النبي وأصحابه إلا تواصوا بها، واجتمعوا عليها. وفى سورة الجن صورة للخير ينبت فى منابت الشر، ويطلع ثمره الطيب، من بين وسط هذا اللهب المتضرم. فمن عالم الجن العاصف بالشرور المحرقة، تهب تلك الأنسام الرقيقة المنعشة، فى صورة جماعة مؤمنة منهم، لم تكد تستمع إلى آيات اللّه، يتلوها رسول اللّه فى ليلة من لياليه مع ربه ـ وكل لياليه لربه، ومع ربه ـ حتى أنصتوا إليه، وآمنوا به، ثم انقلبوا إلى قومهم منذرين!
فبين سورة « نوح » وسورة « الجن » مقابلة بين عالمين : عالم الإنس، وعالم الجن، وفى عالم الإنس شرّ كان حريّا أن يكون خيرا، وفى عالم الجن خير، كان متوقعا أن يكون شرا.. وفى هذا عبرة، وذكرى لأولى الألباب. (٢)
مقدمة وتمهيد
١ - سورة « الجن » من السور المكية الخالصة، وتسمى بسورة قُلْ أُوحِيَ... ، وعدد آياتها ثمان وعشرون آية بلا خلاف، وكان نزولها بعد سورة « الأعراف » وقبل سورة « يس » وقد سبقها في ترتيب النزول ثمان وثلاثون سورة، إذ هي السورة التاسعة والثلاثون - كما ذكر السيوطي -.
أما ترتيبها في المصحف، فهي السورة الثانية والسبعون.

(١) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (٢٩ / ٢٠١)
(٢) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (١٥ / ١٢٠٨)


الصفحة التالية
Icon