أوائلها - لا جميعها - وفي هذه السورة آيات في أواخر ما نزل من القرآن كآيات الربا، في حين أن الراجح أن مقدماتها كانت من أول ما نزل من القرآن في المدينة.
فأما تجميع آيات كل سورة في السورة، وترتيب هذه الآيات، فهو توقيفي موحى به.. روى الترمذي - بإسناده - عن ابن عباس - رضي اللّه عنهما - قال : قلت لعثمان بن عفان : ما حملكم أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المئين، وقرنتم بينهما ولم تكتبوا سطر : بسم اللّه الرحمن الرحيم، ووضعتموها في السبع الطوال؟ وما حملكم على ذلك؟ فقال عثمان : كان رسول اللّه - ﷺ - كان مما يأتي عليه الزمان وهو ينزل عليه السور ذوات العدد فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب، فيقول : ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا. وكانت الأنفال من أول ما نزل بالمدينة، وكانت براءة من آخر ما نزل من القرآن وكانت قصتها شبيهة بقصتها، وخشيت أنها منها وقبض رسول اللّه - ﷺ - ولم يبين لنا أنها منها. فمن أجل ذلك قرنت بينهما، ولم أكتب بينهما سطر : بسم اللّه الرحمن الرحيم، ووضعتها في السبع الطوال.
فهذه الرواية تبين أن ترتيب الآيات في كل سورة كان بتوقيف من رسول اللّه - ﷺ - وقد روى الشيخان عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال كان النبي - ﷺ - أجود الناس بالخير وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل. وكان جبريل عليه السلام يلقاه كل ليلة في رمضان حتى ينسلخ يعرض عليه النبي - ﷺ - القرآن، وفي رواية فيدارسه القرآن، فإذا لقيه جبريل عليه السلام كان أجود بالخير من الريح المرسلة. ومن الثابت أن رسول اللّه - ﷺ - وقد قرأ القرآن كله على جبريل - عليه السلام - كما أن جبريل قد قرأه عليه.. ومعنى هذا أنهما قرآن مرتبة آياته في سوره.
ومن ثم يلحظ من يعيش في ظلال القرآن أن لكل سورة من سوره شخصية مميزة! شخصية لها روح يعيش معها القلب كما لو كان يعيش مع روح حي مميز الملامح والسمات والأنفاس! ولها موضوع رئيسي أو عدة موضوعات رئيسية مشدودة إلى محور خاص. ولها جو خاص يظلل موضوعاتها كلها ويجعل سياقها يتناول هذه الموضوعات من جوانب معينة، تحقق التناسق بينها وفق هذا الجو. ولها إيقاع موسيقي خاص - إذا تغير في ثنايا السياق فإنما يتغير لمناسبة موضوعية خاصة «١».. وهذا طابع عام في سور القرآن جميعا.
ولا يشذ عن هذه القاعدة طوال السور كهذه السورة.
هذه السورة تضم عدة موضوعات. ولكن المحور الذي يجمعها كلها محور واحد مزدوج يترابط الخطان الرئيسيان فيه ترابطا شديدا.. فهي من ناحية تدور حول موقف بني إسرائيل من الدعوة الإسلامية في المدينة، واستقبالهم لها، ومواجهتهم لرسولها - ﷺ - وللجماعة المسلمة الناشئة على أساسها...