مقصودها الإعلام بأن محاسن الأعمال تدفع الأخطار والأوجال، وتخفف الأحمال الثقال، ولا سيما الوقوف بين يدي الملك المتعال، والتجرد يفي خدمته يفي ظلمات الليال، فإنه نعم الإله لقبول الأفعال والأقوال، ومحو ظلل الضلال، والمعين الأعظم على الصبر والاحتمال، لما يرد من الكدورات في دار الزوال، والقلعة والارتحال، واسمها المزمل أدل ما فيها على هذا المقال ) بسم الله ( الكافي من توكل عليه في جميع الأحوال (١)
يروى في سبب نزول هذه السورة أن قريشا اجتمعت في دار الندوة تدبر كيدها للنبي - ﷺ - وللدعوة التي جاءهم بها. فبلغ ذلك رسول اللّه - ﷺ - فاغتم له والتف بثيابه وتزمل ونام مهموما. فجاءه جبريل عليه السلام بشطر هذه السورة الأول «يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا.. إلخ» وتأخر شطر السورة الثاني من قوله تعالى :«إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ...» إلى آخر السورة. تأخر عاما كاملا. حين قام رسول اللّه - ﷺ - وطائفة من الذين معه، حتى ورمت أقدامهم، فنزل التخفيف في الشطر الثاني بعد اثني عشر شهرا.
وتروى رواية أخرى تتكرر بالنسبة لسورة المدثر كذلك - كما سيجيء في عرض سورة المدثر إن شاء اللّه.
وخلاصتها أن رسول اللّه - ﷺ - كان يتحنث في غار حراء - قبل البعثة بثلاث سنوات - أي يتطهر ويتعبد - وكان تحنثه - عليه الصلاة والسلام - شهرا من كل سنة - هو شهر رمضان - يذهب فيه إلى غار حراء على مبعدة نحو ميلين من مكة، ومعه أهله قريبا منه. فيقيم فيه هذا الشهر، يطعم من جاءه من المساكين، ويقضي وقته في العبادة والتفكير فيما حوله من مشاهد الكون، وفيما وراءها من قدرة مبدعة..
وهو غير مطمئن لما عليه قومه من عقائد الشرك المهلهلة، وتصوراتها الواهية، ولكن ليس بين يديه طريق واضح، ولا منهج محدد، ولا طريق قاصد يطمئن إليه ويرضاه.
وكان اختياره - ﷺ - لهذه العزلة طرفا من تدبير اللّه له ليعده لما ينتظره من الأمر العظيم.
ففي هذه العزلة كان يخلو إلى نفسه، ويخلص من زحمة الحياة وشواغلها الصغيرة ويفرغ لموحيات الكون، ودلائل الإبداع وتسبح روحه مع روح الوجود وتتعانق مع هذا الجمال وهذا الكمال وتتعامل مع الحقيقة الكبرى وتمرن على التعامل معها في إدراك وفهم.

(١) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (٨ / ٢٠٢)


الصفحة التالية
Icon