ويقال لها سورة لا أقسم وهي مكية من غير حكاية خلاف ولا استثناء واختلف في عدد آيها ففي الكوفي أربعون وفي غيره تسع وثلاثون والخلاف في لِتَعْجَلَ بِهِ [القيامة : ١٦] ولما قال سبحانه وتعالى في آخر ال مدثر كَلَّا بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ [المدثر : ٥٣] بعد ذكر الجنة والنار وكان عدم خوفهم إياها لإنكارهم البعث ذكر جلا وعلا في هذه السورة الدليل عليه بأتم وجه ووصف يوم القيامة وأهواله وأحواله ثم ذكر ما قبل ذلك من خروج الروح من البدن ثم ما قبل من مبدأ الخلق على عكس الترتيب الواقعي (١)
مقصودها الدلالة على عظمة المدثر المأمور بالإنذار ( - ﷺ - ) لعظمة مرسله سبحانه وتمام اقتداره بأنه كشف له العلوم حتى صار إلى الأعيان بعد الرسوم بشرح آخر سورته من أن هذا القرآن تذكرة عظيمة لما أودعه الله من وضوح المعاني وعذوبة الألفاظ وجلالة النظم ورونق السبك وعلو المقاصد، فهو لذلك معشوق لكل طبع، معلوم ما خفي من أسراره وإشاراته بصدق النية وقوة العزم بحيث يصير بعد كشفه إذا أثر كأنه كان منسيا بعد حفظه فذكر ) فمن شاء ذكره ) [ عبس : ١٢ ] فحفظه وعلم معانيه وتخلق بها، وإنما المانع عن ذلك مشيئة الله تعالى، فمن شاء حجبه عنه أصلا رأسا، ومن شاء شك ولا ارتياب، وجلى عليه أوانسه وعرائسه وحباه جواهره ونفائسه، وحلاه به، فكان ملكه وسائسه، كما كان المدثر ( - ﷺ - ) حين كان خلقه القرآن، واسمها القيامة واضح في ذلك جدا، وليس فيها ما يقوم بالدلالة عليه غيره إذا تؤملت الآية مع ما أشارت إليه " لا " النافية للقسم أو المؤكدة مع أنها في الوضوح في حد لا يحتاج إلى الإقسام عليه لأنه لا يوجد أحد يدع من تحت يده يعدو بعضهم على بعض، ويتصرفون فيما خولهم فيه منه غير حساب، فكيف بأحكم الحاكمين الذي وكل عبيده أضعافهم من الملائكة فهم يديرون كل لحظة فيهم كؤوس المنايا، ويأخذون من أمرهم به سبحانه إلى دار البرزخ للتهئية للعرض ويسوقونهم زمرا بعد زمر إلى العود في الأرض حتى ينتهي الجمع في القبور، ويقيمهم بالنقر في الناقور، والنفخ في الصور، إلى ساحة الحساب للثواب والعقاب، ولم يحجب عن علم ذلك حتى ضل عنه أكثر الخلق إلا مشيئته سبحانه بتغليب النفس الأمارة حتى صارت اللوامة منهمكة في الشر شديدة اللوم عن الإقصار عن شيء منه كما أن ما جلاه لنبيه محمد ( - ﷺ - ) حتى كان خلقه، ولمن أراد من أتباعه إلا إرادته سبحانه بتغليب المطمئنة حتى صار الكل روحا صرفا ونورا خالصا بحتا (٢)
هذه السورة الصغيرة تحشد على القلب البشري من الحقائق والمؤثرات والصور والمشاهد، والإيقاعات واللمسات، ما لا قبل له بمواجهته ولا التفلت منه.. تحشدها بقوة، في أسلوب خاص، يجعل لها طابعا

(١) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (١٥ / ١٥٠)
(٢) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (٨ / ٢٤١)


الصفحة التالية
Icon