ولجاج في الفجور. فيجيء الرد في إيقاعات سريعة، ومشاهد سريعة، وومضات سريعة :«بل يريد الإنسان ليفجر أمامه. يسأل : أيان يوم القيامة؟ فإذا برق البصر، وخسف القمر، وجمع الشمس والقمر، يقول الإنسان يومئذ : أين المفر؟ كلا! لا وزر، إلى ربك يومئذ المستقر، ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر. بل الإنسان على نفسه بصيرة، ولو ألقى معاذيره!»..
ومن هذه المشاهد مشهد المؤمنين المطمئنين إلى ربهم، المتطلعين إلى وجهه الكريم في ذلك الهول. ومشهد الآخرين المقطوعي الصلة باللّه، وبالرجاء فيه، المتوقعين عاقبة ما أسلفوا من كفر ومعصية وتكذيب. وهو مشهد يعرض في قوة وحيوية كأنه حاضر لحظة قراءة القرآن. وهو يعرض ردا على حب الناس للعاجلة، وإهمالهم للآخرة. وفي الآخرة يكون هذا الذي يكون :«كَلَّا! بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ، وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ. وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ، إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ. وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ، تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ!»..
وفي ثنايا السورة وحقائقها تلك ومشاهدها تعترض أربع آيات تحتوي توجيها خاصا للرسول - ﷺ - وتعليما له في شأن تلقي هذا القرآن. ويبدو أن هذا التعليم جاء بمناسبة حاضرة في السورة ذاتها. إذ كان الرسول - ﷺ - يخاف أن ينسى شيئا مما يوحى إليه، فكان حرصه على التحرز من النسيان يدفعه إلى استذكار الوحي فقرة فقرة في أثناء تلقيه وتحريك لسانه به ليستوثق من حفظه. فجاءه هذا التعليم :
«لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذا قَرَأْناهُ، فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ»..
جاءه هذا التعليم ليطمئنه إلى أن أمر هذا الوحي، وحفظ هذا القرآن، وجمعه، وبيان مقاصده.. كل أولئك موكول إلى صاحبه. ودوره هو، هو التلقي والبلاغ. فليطمئن بالا، وليتلق الوحي كاملا، فيجده في صدره منقوشا ثابتا.. وهكذا كان.. فأما هذا التعليم فقد ثبت في موضعه حيث نزل.. أليس من قول اللّه؟ وقول اللّه ثابت في أي غرض كان؟ ولأي أمر أراد؟ وهذه كلمة من كلماته تثبت في صلب الكتاب شأنها شأن بقية الكتاب.. ودلالة إثبات هذه الآيات في موضعها هذا من السورة دلالة عميقة موحية على حقيقة لطيفة في شأن كل كلمات اللّه في أي اتجاه.. وفي شأن هذا القرآن وتضمنه لكل كلمات اللّه التي أوحى بها إلى الرسول - ﷺ - لم يخرم منها حرف، ولم تند منها عبارة. فهو الحق والصدق والتحرج والوقار! وهكذا يشعر القلب - وهو يواجه هذه السورة - أنه محاصر لا يهرب. مأخوذ بعمله لا يفلت. لا ملجأ له من اللّه ولا عاصم. مقدرة نشأته وخطواته بعلم اللّه وتدبيره، في النشأة الأولى وفي النشأة الآخرة سواء، بينما هو يلهو ويلعب ويغتر ويتبطر :«فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى. ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى»..
وفي مواجهة تلك الحشود من الحقائق والمؤثرات واللمسات والإيحاءات يسمع التهديد الملفوف :«أَوْلى لَكَ فَأَوْلى. ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى » فيكون له وقعه ومعناه! وهكذا تعالج السورة عناد هذا القلب وإعراضه


الصفحة التالية
Icon