تدفعه إليه رغبته في نصرة دينه، وإخلاصه لأمر دعوته، وحبه لمصلحة الإسلام، وحرصه على انتشاره! وهنا تتدخل السماء. تتدخل لتقول كلمة الفصل في هذا الأمر ولتضع معالم الطريق كله، ولتقرر الميزان الذي توزن فيه القيم - بغض النظر عن جميع الملابسات والاعتبارات. بما في ذلك اعتبار مصلحة الدعوة كما يراها البشر. بل كما يراها سيد البشر - ﷺ -.
وهنا يجىء العتاب من اللّه العلي الأعلى لنبيه الكريم، صاحب الخلق العظيم، في أسلوب عنيف شديد.
وللمرة الوحيدة في القرآن كله يقال للرسول الحبيب القريب :«كلا» وهي كلمة ردع وزجر في الخطاب! ذلك أنه الأمر العظيم الذي يقوم عليه هذا الدين! والأسلوب الذي تولى به القرآن هذا العتاب الإلهي أسلوب فريد، لا تمكن ترجمته في لغة الكتابة البشرية.
فلغة الكتابة لها قيود وأوضاع وتقاليد، تغض من حرارة هذه الموحيات في صورتها الحية المباشرة. وينفرد الأسلوب القرآني بالقدرة على عرضها في هذه الصورة في لمسات سريعة. وفي عبارات متقطعة. وفي تعبيرات كأنها انفعالات، ونبرات وسمات ولمحات حية! «عَبَسَ وَتَوَلَّى. أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى ».. بصيغة الحكاية عن أحد آخر غائب غير المخاطب! وفي هذا الأسلوب إيحاء بأن الأمر موضوع الحديث من الكراهة عند اللّه بحيث لا يحب - سبحانه - أن يواجه به نبيه وحبيبه.
عطفا عليه، ورحمة به، وإكراما له عن المواجهة بهذا الأمر الكريه!
ثم يستدير التعبير - بعد مواراة الفعل الذي نشأ عنه العتاب - يستدير إلى العتاب في صيغة الخطاب.
فيبدأ هادئا شيئا ما :«وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى؟ أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى ؟».. ما يدريك أن يتحقق هذا الخير الكبير. أن يتطهر هذا الرجل الأعمى الفقير - الذي جاءك راغبا فيما عندك من الخير - وأن يتيقظ قلبه فيتذكر فتنفعه الذكرى. ما يدريك أن يشرق هذا القلب بقبس من نور اللّه، فيستحيل منارة في الأرض تستقبل نور السماء؟ الأمر الذي يتحقق كلما تفتح قلب للهدى وتمت حقيقة الإيمان فيه. وهو الأمر العظيم الثقيل في ميزان اللّه..
ثم تعلو نبرة العتاب وتشتد لهجته وينتقل إلى التعجيب من ذلك الفعل محل العتاب :«أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى، فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى؟! وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى؟! وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى وَهُوَ يَخْشى، فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى؟!»..
أما من أظهر الاستغناء عنك وعن دينك وعما عندك من الهدى والخير والنور والطهارة.. أما هذا فأنت تتصدى له وتحفل أمره، وتجهد لهدايته، وتتعرض له وهو عنك معرض! «وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى؟».. وما يضيرك أن يظل في رجسه ودنسه؟ وأنت لا تسأل عن ذنبه. وأنت لا تنصر به. وأنت لا تقوم بأمره.. «وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى » طائعا مختارا، «وَهُوَ يَخْشى » ويتوقى «فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى!».. ويسمي الانشغال عن الرجل المؤمن الراغب في الخير التقي تلهيا.. وهو وصف شديد..