وعند هذا الحد يبدأ سياق السورة يتجه إلى النبي - ﷺ - وإلى الجماعة المسلمة من حوله حيث يأخذ في وضع الأسس التي تقوم عليها حياة هذا الجماعة المستخلفة على دعوة اللّه في الأرض، وفي تمييز هذه الجماعة بطابع خاص، وبمنهج في التصور وفي الحياة خاص.
ويبدأ في هذا بتعيين القبلة التي تتجه إليها هذه الجماعة. وهي البيت المحرم الذي عهد اللّه لإبراهيم وإسماعيل أن يقيماه ويطهراه ليعبد فيه اللّه وحده، هذه القبلة التي كان النبي - ﷺ - يرغب ولا يصرح في الاتجاه إليها :«قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ، فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها، فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ، وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ»..
ثم تمضي السورة في بيان المنهج الرباني لهذه الجماعة المسلمة. منهج التصور والعبادة، ومنهج السلوك والمعاملة، تبين لها أن الذين يقتلون في سبيل اللّه ليسوا أمواتا بل أحياء. وأن الإصابة بالخوف والجوع ونقص الأموال والأنفس والثمرات ليس شرا يراد بها، إنما هو ابتلاء، ينال الصابرون عليه صلوات اللّه ورحمته وهداه. وأن الشيطان يعد الناس الفقر ويأمرهم بالفحشاء واللّه يعدهم مغفرة منه وفضلا. وأن اللّه ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور، والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات..
وتبين لهم بعض الحلال والحرام في المطاعم والمشارب. وتبين لهم حقيقة البر لا مظاهره وأشكاله. وتبين لهم أحكام القصاص في القتلى. وأحكام الوصية. وأحكام الصوم. وأحكام الجهاد. وأحكام الحج. وأحكام الزواج والطلاق مع التوسع في دستور الأسرة بصفة خاصة. وأحكام الصدقة وأحكام الربا.. وأحكام الدّين والتجارة...
وفي مناسبات معينة يرجع السياق إلى الحديث عن بني إسرائيل من بعد موسى. وعن حلقات من قصة إبراهيم. ولكن جسم السورة - بعد الجزء الأول منها - ينصرف إلى بناء الجماعة المسلمة، وإعدادها لحمل أمانة العقيدة، والخلافة في الأرض بمنهج اللّه وشريعته. وتمييزها بتصورها الخاص للوجود، وارتباطها بربها الذي اختارها لحمل هذه الأمانة الكبرى.
وفي النهاية نرى ختام السورة ينعطف على افتتاحها، فيبين طبيعة التصور الإيماني، وإيمان الأمة المسلمة بالأنبياء كلهم، وبالكتب كلها وبالغيب وما وراءه، مع السمع والطاعة :«آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ، كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ، وَقالُوا : سَمِعْنا وَأَطَعْنا، غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ. لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها، لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ، رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا، رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ


الصفحة التالية
Icon