ويصفه في تنزيله. فهو إذن شيء في ميزانه.. وهذا يكفي! نعم هذا يكفي حين تستشعره القلوب المؤمنة مهما كانت مجروحة موجوعة.
ثم إن ربهم يسخر من المجرمين سخرية رفيعة عالية فيها تلميح موجع. قد لا تحسه قلوب المجرمين المطموسة المغطاة بالرين المطبق عليها من الذنوب. ولكن قلوب المؤمنين الحساسة المرهفة، تحسه وتقدره، وتستريح إليه وتستنيم! ثم إن هذه القلوب المؤمنة تشهد حالها عند ربها، ونعيمها في جناته، وكرامتها في الملأ الأعلى. على حين تشهد حال أعدائها ومهانتهم في الملأ الأعلى وعذابهم في الجحيم، مع الإهانة والترذيل.. تشهد هذا وذلك في تفصيل وفي تطويل. وهي تستشعر حالها وتتذوقه تذوق الواقع اليقين. وما من شك أن هذا التذوق يمسح على مرارة ما هي فيه من أذى وسخرية وقلة وضعف. وقد يبلغ في بعض القلوب أن تتبدل هذه المرارة فيها بالفعل حلاوة، وهي تشهد هذه المشاهد في ذلك القول الكريم.
ومما يلاحظ أن هذا كان هو وحده التسلية الإلهية للمؤمنين المعذبين المألومين من وسائل المجرمين الخسيسة، وأذاهم البالغ، وسخريتهم اللئيمة.. الجنة للمؤمنين، والجحيم للكافرين. وتبديل الحالين بين الدنيا والآخرة تمام التبديل.. وهذا كان وحده الذي وعد به النبي - ﷺ - المبايعين له. وهم يبذلون الأموال والنفوس! فأما النصر في الدنيا، والغلب في الأرض، فلم يكن أبدا في مكة يذكر في القرآن المكي في معرض التسرية والتثبيت..
لقد كان القرآن ينشئ قلوبا يعدها لحمل الأمانة. وهذه القلوب كان يجب أن تكون من الصلابة والقوة والتجرد بحيث لا تتطلع - وهي تبذل كل شيء وتحتمل كل شي ء - إلى شيء في هذه الأرض. ولا تنتظر إلا الآخرة. ولا ترجو إلا رضوان اللّه. قلوبا مستعدة لقطع رحلة الأرض كلها في نصب وشقاء وحرمان وعذاب وتضحية واحتمال، بلا جزاء في هذه الأرض قريب. ولو كان هذا الجزاء هو انتصار الدعوة وغلبة الإسلام وظهور المسلمين! حتى إذا وجدت هذه القلوب التي تعلم أن ليس أمامها في رحلة الأرض شيء إلا أن تعطي بلا مقابل. وأن تنتظر الآخرة وحدها موعدا للجزاء. وموعدا كذلك للفصل بين الحق والباطل.. حتى إذا وجدت هذه القلوب، وعلم اللّه منها صدق نيتها على ما بايعت وعاهدت، آتاها النصر في الأرض، وائتمنها عليه. لا لنفسها. ولكن لتقوم بأمانة المنهج الإلهي وهي أهل لأداء الأمانة، مذ كانت لم توعد بشيء من المغنم في الدنيا تتقاضاه ولم تتطلع إلى شيء من المغنم في الأرض تعطاه. وقد تجردت للّه حقا يوم كانت لا تعلم لها جزاء إلا رضاه! وكل الآيات التي ورد فيها ذكر للنصر في الدنيا جاءت في المدينة. بعد ذلك. وبعد أن أصبح هذا الأمر خارج برنامج المؤمن وانتظاره وتطلعه. وجاء النصر ذاته لأن مشيئة اللّه اقتضت أن تكون لهذا المنهج واقعية في الحياة الإنسانية تقرره في صورة


الصفحة التالية
Icon