والمقطع الثالث عرض لمشاهد كونية حاضرة، مما يقع تحت حس «الْإِنْسانُ» لها إيحاؤها ولها دلالتها على التدبير والتقدير، مع التلويح بالقسم بها على أن الناس متقلبون في أحوال مقدرة مدبرة، لا مفر لهم من ركوبها ومعاناتها :«فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ، وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ، وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ»..
ثم يجيء المقطع الأخير في السورة تعجيبا من حال الناس الذين لا يؤمنون وهذه هي حقيقة أمرهم، كما عرضت في المقطعين السابقين. وتلك هي نهايتهم ونهاية عالمهم كما جاء في مطلع السورة :«فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ؟ وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ؟».. ثم بيان لعلم اللّه بما يضمون عليه جوانحهم وتهديد لهم بمصيرهم المحتوم :«بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ. فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ. إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ. لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ»..
إنها سورة هادئة الإيقاع، جليلة الإيحاء، يغلب عليها هذا الطابع حتى في مشاهد الانقلاب الكونية التي عرضتها سورة التكوير في جو عاصف. سورة فيها لهجة التبصير المشفق الرحيم، خطوة خطوة. في راحة ويسر، وفي إيحاء هادئ عميق. والخطاب فيها :«يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ» فيه تذكير واستجاشة للضمير.
وهي بترتيب مقاطعها على هذا النحو تطوف بالقلب البشري في مجالات كونية وإنسانية شتى، متعاقبة تعاقبا مقصودا.. فمن مشهد الاستسلام الكوني. إلى لمسة لقلب «الْإِنْسانُ». إلى مشهد الحساب والجزاء. إلى مشهد الكون الحاضر وظواهره الموحية. إلى لمسة للقلب البشرى أخرى. إلى التعجيب من حال الذين لا يؤمنون بعد ذلك كله. إلى التهديد بالعذاب الأليم واستثناء المؤمنين بأجر غير ممنون..
كل هذه الجولات والمشاهد والإيحاءات واللمسات في سورة قصيرة لا تتجاوز عدة أسطر.. وهو ما لا يعهد إلا في هذا الكتاب العجيب!
فإن هذه الأغراض يتعذر الوفاء بها في الحيز الكبير ولا تؤدى بهذه القوة وبهذا التأثير.. ولكنه القرآن ميسر للذكر يخاطب القلوب مباشرة من منافذها القريبة. صبغة العليم الخبير! (١)
مقاصد السورة
تشتمل هذه السورة على مقصدين :
(١) إن الإنسان يلاقى نتائج أعماله يوم القيامة، فيأخذ كتابه بيمينه أو من وراء ظهره.
(٢) أن الناس فى الدنيا بتنقلون فى أحوالهم طبقة بعد طبقة، إما فى نعيم مقيم، وإما فى عذاب أليم. (٢)
================

(١) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (٦ / ٣٨٦٤)
(٢) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (٣٠ / ٩٦)


الصفحة التالية
Icon