وشهد نماذج أخرى أقل ظهوراً في سجل التاريخ الإيماني في القديم والحديث. وما يزال يشهد نماذج تتراوح بين هذه النهايات التي حفظها على مدار القرون. ولم يكن بدّ من النموذج الذي يمثله حادث الأخدود، إلى جانب النماذج الأخرى. القريب منها والبعيد..
لم يكن بد من هذا النموذج الذي لا ينجو فيه المؤمنون، ولا يؤخذ فيه الكافرون ! ذلك ليستقر في حس المؤمنين - أصحاب دعوة الله - أنهم قد يدعون إلى نهاية كهذه النهاية في طريقهم إلى الله. وأن ليس لهم من الأمر شيء، إنما أمرهم وأمر العقيدة إلى الله !
إن عليهم أن يؤدوا واجبهم، ثم يذهبوا، وواجبهم أن يختاروا الله، وأن يؤثروا العقيدة على الحياة، وأن يستعلوا بالإيمان على الفتنة وأن يصدقوا الله في العمل والنية. ثم يفعل الله بهم وبأعدائهم، كما يفعل بدعوته ودينه ما يشاء. وينتهي بهم إلى نهاية من تلك النهايات التي عرفها تاريخ الإيمان، أو إلى غيرها مما يعلمه هو ويراه.
إنهم أجراء عند الله. أينما وحيثما وكيفما أرادهم أن يعملوا، عملوا وقبضوا الأجر المعلوم !
وليس لهم ولا عليهم أن تتجه الدعوة إلى أي مصير، فذلك شأن صاحب الأمر لا شأن الأجير !
وهم يقبضون الدفعة الأولى طمأنينة في القلب، ورفعة في الشعور، وجمالاً في التصور، وانطلاقاً من الأوهاق والجواذب، وتحرراً من الخوف والقلق، في كل حال من الأحوال.
وهم يقبضون الدفعة الثانية ثناء في الملأ الأعلى وذكراً وكرامة، وهم بعد في هذه الأرض الصغيرة.
ثم هم يقبضون الدفعة الكبرى في الآخرة حساباً يسيراً ونعيماً كبيراً.
ومع كل دفعة ما هو أكبر منها جميعاً. رضوان الله، وانهم مختارون ليكونوا أداة لقدره وستاراً لقدرته، يفعل بهم في الأرض ما يشاء.
وهكذا انتهت التربية القرآنية بالفئة المختارة من المسلمين في الصدر الأول إلى هذا التطور، الذي أطلقهم من أمر ذواتهم وشخوصهم. فأخرجوا أنفسهم من الأمر البتة، وعملوا أجراء عند صاحب الأمر ورضوا خيرة الله على أي وضع وعلى أي حال.
وكانت التربية النبوية تتمشى مع التوجيهات القرآنية، وتوجه القلوب والأنظار إلى الجنة، وإلى الصبر على الدور المختار حتى يأذن الله بما يشاء في الدنيا والآخرة سواء.
عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، قَالَ: " لَقِيتُ رَسُولَ اللهِ - ﷺ - بِالْبَطْحَاءِ، فَأَخَذَ بِيَدِي، فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ، فَمَرَّ بِعَمَّارٍ، وَأَبِي عَمَّارٍ، وَأُمِّ عَمَّارٍ، وَهُمْ يُعَذَّبُونَ فَقَالَ: " صَبْرًا آلَ يَاسِرٍ، فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى الْجَنَّةِ " (١)..

(١) - معرفة الصحابة لأبي نعيم - (٥ / ٢٨١٣) (٦٦٦٢ ) صحيح لغيره


الصفحة التالية
Icon